(2-2)
فيما سبق أشرنا أن (تاريخ الفن الحديث في العالم العربيّ) يصير رديفاً لكرامة وعزّة الدولة الوطنية العربية الحديثة. يكفي أن تُقلّب أي مًؤَلَّف أو دراسة عربيّة عن الموضوع لتتأكد بنفسك من المسألة. والأمر موصول بـ (تاريخ الفن) العام في العالم كله، لكن من زاوية أشمل. فهذا التاريخ الذي يزعم أنه (علم) وصفيّ موضوعيّ، إنما هو صورة مركّبة عن (مركزية الذات) الأوربية في الحقل التشكيليّ: في حين يتضمّن هدفه تقديم سردية تاريخية للفن في ثقافات شعوب الأرض، تجد أنه لا يمنح إلا القليل من الصفحات للفنون الآسيوية أو يتجاهلها تماماً في حين يبدأ سرديته الفعلية وبشكل موسع مفرط بدءاً من الفن الإغريقيّ حتى يومنا الأوربي هذا. فلو أخذت كتابا فرنسيا أو إنكليزيا تحت عنوان (تاريخ الفن L'histoire de l'art) من 500 صفحة مثلاً ستجد أنه يكرس ما يقارب 100 صفحة للفنون المصرية والرافدينية والإسلامية والصينية واليابانية – هذا إذا لم يتجاهل بعضها تماماً- ويكرّس الـ 400 صفحة الأخرى لتلك الفنون الأوربية. تقريباً.
وفي بنية هذا التاريخ تفاصيل صغيرة دالة عن الطبيعة الأيديولوجية: هل أن ورقة العنب المؤسلبة الحاضرة في زخرف فنون الشعوب هي حصراً من أصل إغريقي؟ ولماذا يا ترى تكون من هذا الأصل؟. وهل أن الفن البيزنطيّ موصول ببلاد الشام ونتاج من نتائج ثقافاتها أم أنه قدم من مكان آخر إليها؟ وهل تأثر الفن الساسانيّ وقبله الأخمينيّ بالفن الرافدينيّ وهو نتاج من نتائج بلاد الرافدين أم أنه مقطوع الصلة ولماذا تُخفّف هذه الصلة إلى أبعد حدّ بملاسةٍ ودهاءٍ؟ ولماذا هذا الإفراط في التفريق بين الفن السومريّ والفن الآشوريّ؟ ألأنَّ اللغة السومرية ليست من أصل ساميّ كالآشورية؟. ورقة العنب تودّ التوكيد أن اليونان هي الأصل الحضاري للجميع. وأولوية بيزنطة تود التخفيف إلى أبعد حد من فاعلية سكان بلاد الشام في صناعة جماليات الفن البيزنطيّ. وتجاهُل الأثر الرافدينيّ العميق على الفنين الأخمينيّ والساسانيّ يودّ منح (إيران) الآرية، كما كان يقال حينها، دوراً آريا في فنون العالم الأنتيكيّ جوار اليونان والرومان. وإعلاء شأن الفن السومريّ إنما يُضمر التقليل من شأن الشعوب (السامية) الرافدينية الأخرى. كل ذلك من الأيديولوجيا وليس من البحث.
اليوم، هذا اليوم عينه يعاود باحثون عرب ما يعتبرونه بداهات جمالية وتشكيلية انطلاقاً من أيديولوجيات قومانية أو محلية ثابتة، أو مستعارة من دروس (تاريخ الفن) العام. لقد سمعتُ قبل شهرين باحثاً مرموقا يقول في محاضرته إن مفهوم الحوش، الباحة هو أمر مخصوص حصراً بالبلاد التونسية وحدها. وقد نسيَ أن مفهوم الحوش سائد معروف في عمارة الهند وباكستان فإيران فالعراق والجزيرة فبلاد الشام فمصر فشمال أفريقيا، بدرجات وتكيّفات تتعلق بالمناخ والقِيَم كليهما: الحوش مبدأ ثقافيّ يستجيب للوعي الاجتماعيّ والدينيّ في جميع تلك المناطق.
أما الاستعارة غير المتفحِّصة فأبرز أمثلتها المُعادة على ألسنة المثقفين والجامعيين العرب هي أن الفن الإسلاميّ إعادة إنتاج للفنين (البيزنطيّ) و(الساسانيّ). هنا نشيد مدرسيّ ممجوج مستعار من دون لُوينات، ويبرهن أن الأصل فيه أيديولوجي، ومثله الكثير كلما تعلقت القضية بفنون وتواريخ منطقتنا.
أما نتائج (تاريخ الفن) الأوربيّ فقد عُمّمت دون تمحيص على كل فن آخر. خذ مثلاً تعميمه القائل أن توقيعات الفنانين على أعمالهم ظهرت مع عصر النهضة واكتشاف المنظور الخطيّ. ماذا سنفعل إذنْ بآلاف التوقيعات التي ظهرت في أعمال متنوعة في جميع فنون العالم القديم، اليونانيّ والمصريّ والساميّ قبل الإسلاميّ مباشرة (الحضر وتدمر والبتراء ومدائن صالح...) ثم في الفن الإسلامي (خذ مثلا مئات توقيعات الخزّافين الفاطميّين). ثم إن موضعة الفنان ضمن التقسيمات الطبقية والحرفية الأوربية لا يصلح إلا لنظام طبقاتها الصارم، قبل الثورة الصناعية، وليس بالضرورة لسواه الذي عرف أنساقاً طبقية وحرفية مغايرة.، وقيماً اجتماعية مختلفة بشأن الحرفيّ والفنان.
تستجيب هذه النتائج المُعمّمة إلى (مركزية) ثقافية ترى في نفسها الأصل والمآل والنموذج الوحيد، أو الفريد.
هل تاريخ الفن العام هو تاريخ أيديولوجيّ؟
نشر في: 11 مارس, 2016: 09:01 م
جميع التعليقات 1
د. بسام صابور
استاذ شاكر المحترم: لاشك ان المنتصر بفرض ثقافته وارئه وطريقة حياته واحكامه في كل شيء ومنها تاريخ الفن. ولكن من يقرا تاريخ الفن المكتوب من قبل الاوروبيين يدهش لهذه الرصانه العلميه واسلوب الكتابه والمراجع والصور.. انه عالم من البحث العلمي يعود لقرون. حلمنا