كان يمكن للمخرج المكسيكي الطليعي ارتو ربستين أن يقتفي خطى مواطنه اليخاندرو غونزاليز الذي شرعت له هوليوود أبوابها وفتحت له طريق الشهرة والجمهور، لولا انه اختار أن يكون مكسيكياً بالكامل . وربما لهذا السبب لا يمكن الحديث عن سينما مكسيكية ذات تقاليد وهوية خاصة من دون المرور باسمه المرتبط بأهم إنجازاتها على الإطلاق. فربستين لا يبحث عن النجاح مقروناً بالاستعانة بنجم بحجم براد بيت الذي عمل تحت إدارة غونزاليز في فيلمه المهم (بابل) ، كما أشار في حوار معه خلال حضوره مهرجان أبو ظبي الأخير، إنما نجاحه يرتبط بسينما تستلهم روح وطنه المكسيك . فالشهرة ليست هي الموهبة ؛ الموهبة أن تبتكر أسلوبك الخاص في الكشف حتى لو كلفك ذلك أن تكون مغمورا لزمن طويل.
يرفض ربستين (الأسطورة) التي روجت إلى عمله مساعدا لبونويل في بعض أفلامه حتى لو كانت انطلاقا من مقولة جون فورد (إذا كانت الأسطورة أفضل من الحقيقة فاطبع الأسطورة)، ولكنه يتحدث بفخر عن حضوره في مواقع تصوير أفلامه ، وهو ما ترك أثراً على منجزه، تماما كما هو الحال مع سينمائي كبير آخر مثل فريتز لانغ، الذي كان أحد أهم مصادر ربستين.
المخرج ربستين تلميذ المخرج الاسباني السريالي الكبير لويس بونويل، وأحد أهم رموز السينما المكسيكية الآن، كان في فيلمه المهم (أسباب القلب)، مخلصا لمنهجه في اعتماد الأدب والروايات العالمية موضوعات لأفلامه، وهو في هذه الأعمال التي طبعت أكثر أفلامه إنما يبحث عما هو ملهم، فمنذ فيلمه الأول (وقت للقلب) الذي تعاون في كتابته معه اثنان من أهم كتّاب الرواية في أميركا اللاتينية، الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والمكسيكي كارل فوينتس وليس انتهاء بروايات ماركيز ونجيب محفوظ، فإن ربستين اغترف من عيون الروايات مواضيع لأفلامه، ولكن بمعالجة تشير إلى أسلوبه المتفرد بالعمل. فهو يبحث عن الأعمال التي تتماهى ورؤيته السينمائية ، لذا تراه يعيد إنتاج الفكرة بما ينسجم مع هذه الرؤية.
وكما نقل ربستين أجواء القاهرة إلى المكسيك في فيلمه المعد عن رواية نجيب محفوظ (بداية ونهاية)، فإنه قد اختار في فيلمه (أسباب القلب) احد أهم الشخصيات الروائية في الأدب الفرنسي على الإطلاق، (ايما) في رواية جوستاف فلوبير (مدام بوفاري) لتكون موضوعا لفيلمه هذا من خلال امرأة مكسيكية تعيش الأجواء النفسية والاجتماعية نفسها. ومنذ المشهد الاستهلالي في الفيلم يجعلنا ربستين نعيش لحظات القلق والخواء الذي تعيشه بطلة الفيلم التي تتنازعها الرغبة في الانعتاق من القيد الاجتماعي والإحساس باللاجدوى من حياة لا جديد فيها سوى الهمّ الاجتماعي والاقتصادي.. ومثل ايما شخصية فلوبير تشعر بالنفور من الحاضر الرتيب، حالمة بحياة مكتظة بالعاطفة لتنغمس فيها برغبة عارمة، لكنها تصطدم بواقع لا يمنح أمثالها فرصة الانفلات..امرأة متزوجة من زوج خال من الحياة لا يوليها الاهتمام المطلوب.. تعشق مهاجرا كوبيا غير شرعي لا يبادلها الحب نفسه، فهو منشغل بحياته وطموحه في أن يكون عازف ساكسفون مشهورا، وهي لا تتوانى أيضا في خيانة الاثنين في لحظة يأس مطبقة مع رجل جار لها في علاقة عبثية عابرة تحيلنا إلى غريب كامو . تحاول الزوجة الإفلات من هذه الدائرة المغلقة بلاجدوى لتقرر الانتحار، الذي يبدو هنا حلا (معقولا) لورطة الروح.. وعند جثمانها يجتمع الرجال الثلاثة مع ابنتها الصغيرة بحوار هامس تصحبه موسيقى الساكسفون الحزينة..وبلغة سينمائية جميلة يستبطن ربستين دواخل شخصياته، بأجواء قاتمة تقبض النفس – الفيلم منفذ بالأبيض والأسود – وأداء معجز للممثلة ارسيليا راميريز.
مدام بوفاري مكسيكياً
[post-views]
نشر في: 11 مايو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...