TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > وبشِّرِ العراقيّينَ بالجنَّة ...!

وبشِّرِ العراقيّينَ بالجنَّة ...!

نشر في: 10 يونيو, 2016: 06:54 م

كنتُ أستمع  من دون قصدٍ بالتلصّص، إلى حوارٍ مكبوتٍ يدور بين زوجين عراقيين يجلسان على مقربة منّي، وقد فاض في حوارهما الحزن وتقريع الذات والندم. ويبدو أنّهما تركا بلد اللجوء الأوروبي وعادا إلى الوطن، يحملهما الحنين إلى هوائه وترابه وعِشرته، ولابدّ أنَّ الأمل كان يكبر في روحيهما وهما يُحلّقانِ في سمائه ويطلّانِ على أراضيه.
لكنَّ فيض الحنين وما شابهه من مشاعر، بدأ يتبدّد في كل خطوة تُقرّبهما من بيت الوطن، المكنوس من كلّ أثر لحياة بشريّة سويّة، المسوَّر بالعزلة والارتياب والقلق الدائم من أشباحٍ قيل لهما إنها مصدر تهديدٍ خفيّ، ولا يمكن الكشف عن هويتها أو التعرف على ملامحها أو غاياتها.
لم تُفلحْ أسوار العزلة واليقظة والارتياب في الحفاظ على حياة ولدهما الذي أجبراه على العودة الى الوطن معهما ليشبّ فيه رجلاً كامل الأوصاف كما يريدانِ له أن يكون، وطنيّاً متّقد الحماسة، لكنه قُتل في تفجيرٍ إرهابي، لِيُقتلَ أيضاً قريبٌ له في تشييع جنازته.
كان الحوار بالنسبة لنا نحن الذين اكتوينا بنيران "وطنية العراق الجديد" عاديّاً، لم يعد فيه من معنىً يؤثّر في سير حياتنا اليومية، أو يعطّل حركتنا، سوى أنّ مشاعرنا تبلّدت، وأحاسيسنا بالفجيعة والموت والخسران اتّخذت لها معانيَ جديدة، صارت هي جزءاً لا ينفصل من الطقوس اليومية للعراقيين الذين باتوا ينامون على أمنية واحدة: أن يكون الغد بمثل سوء اليوم لا أكثر.!
لكن ما استوقفني من الحوار سؤالٌ بريء من الزوجة المفجوعة لزوجها: هل تفكّر أحياناً بعد أن عدنا من بلد لجوئنا، كأننا نعيش في جهنّم بعينها؟ أليس في كل ما أورده كتاب الله من توصيفٍ للنار والعقاب بالعذاب يتطابق مع ما يدور حولنا هنا في هذا العراق الذي عدنا إليه بمحض اختيارنا وإرادتنا. ؟!
كانا يتحاوران وهما يتفرجان على معارك الفلوجة عبر التلفزيون، ويتأففان إذ يشاهدان مشاهد مفجعة لناسٍ من أهلها، "أهلنا"، يهربون من سعير قطعان داعش، ليقعوا في أفخاخ قتلة متمرّسين بالجريمة في مدرسة نظام البعث، مختبئين في عباءةٍ "مذهبية كاذبة" التصقت بها بقايا جرَبٍ وفضلات ديدانٍ اعتاشت على دماء بشر حملوا عذاباتنا لنعيش في عراقٍ جديد.
وفجأة يظهر من الشاشة صبيان يقتحمون مكاتب ومقارّ أحزاب وكتل وجماعاتٍ سياسية، يحطّمون ما فيها ويعبثون بأوراقها.
سألت الزوجة - الأم المفجوعة زوجها: وهل في النار الأزلية مثل هذه المقار والصبية وما هم فيه من لهوٍ وعبث..؟
قال الزوج - الأب المفجوع بعد أن لازم الصمت طوال الحوار: إنها مشاهد من الجحيم الذي ارتضيناه لأنفسنا، وهي إضافة من نظامنا لتوصيف جحيم الله، وليس هذا علينا بكثير بعد أن ابتدع النظام كلّ أنواع الفساد والخراب والدجل السياسي.
وقد يكون في هذا بعض الحكمة، فلعلَّ الله يريد أن يكافئ كلّ العراقيين بالجنّة، ما دمنا عشنا سلفاً سعير الجحيم، كما جاء في توصيفه وما ابتُدِع لنا في العراق الجديد!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram