في أشدِّ لحظات اليأس العام، يُمكنُ للأملِ أنْ ينبعثَ مِنْ فجواتِ الخرائبِ التي يُخلِّفُها الفساد والرثاثة السياسيّة. وهذا الانبعاث في اللحظات التي يتراجع فيها الأمل حدّ الفقدان، هو الردُّ على الرثاثة، والتعبير البليغ عن التحدّي للطبقة السياسيّة التي
في أشدِّ لحظات اليأس العام، يُمكنُ للأملِ أنْ ينبعثَ مِنْ فجواتِ الخرائبِ التي يُخلِّفُها الفساد والرثاثة السياسيّة. وهذا الانبعاث في اللحظات التي يتراجع فيها الأمل حدّ الفقدان، هو الردُّ على الرثاثة، والتعبير البليغ عن التحدّي للطبقة السياسيّة التي لم تُقَدِّم للوطن المُبتلى بها سوى الخيبات والانكسارات وتجلّيات التردّي والانحدار وفساد القيم ونماذج الرثاثة السياسيّة في أساليب الحكم وإدارة الشأن العام.
فليسَ صحيحاً أنَّ اليأس لا يُنتج غير الاستسلام، لأنَّ فداحة الخسارة والإحساس الدفين بالخيانة وانكشاف معالم التواطؤات المتبادلة لطمس معالم الجريمة والارتكابات الفاضحة التي تستهدف كسر الإرادة الوطنيّة، قد تتحوّل في لحظة فارقة إلى إرادة وطنية قاهرة، تنبذ كلَّ مظهرٍ لليأس، وتتعالى على كلِّ إحساسٍ بالإحباط، لتُذكِّر بأنَّ قواها الكامنة لا يُبدّدها يأسٌ طارئ، ولا يعطّلها إحساسٌ عبثيٌ بالمرارة أو الخجل من طبقة سياسيّة مرابية توهّمت بأنَّ جرائمها قد سُجِّلت ضدَّ مجهول..!
إنَّ الغباء السياسيّ للحاكم المستقوي بكرسيّ الحكم يجعله لا يُميّزُ بين مظاهر اليأس الشخصيّ، وما يُعبِّر عنه الاحتجاج العام الذي يتّخذ في لحظاتٍ فارقة من الحراك السياسي مظاهر خادعة توحي بضعف الإرادة وبالانقياد والاستسلام. والطبقة السياسيّة المتماهية مع أوهامها لا ترى في تلك المظاهر والتجليات تجسيداً للنفور من المستوى المبتذل الذي صار إليه الحكم، والاستنكاف من الدخول على خطّ صراعٍ يريد إعادة تدوير فضلات نهجٍ سياسيٍّ منتهي الصلاحيّة.
على جبهة المواجهة مع الإرهاب الداعشيّ في الفلوجة، ينبعثُ خيطُ أملٍ يشكّل إمكانية استنهاضٍ شعبيٍّ قاهر. وليس لهذا الانبعاث من صلة رحمٍ بالطبقة السياسيّة الحاكمة، ولا برموزها التي تحاول توظيف إمكانيّة التحوّل في المزاج الوطنيّ، ارتباطاً بهزيمة داعش، للظهور بدور المُنقذ صانع الانتصار في المعركة ضد الإرهاب، وإخضاع نتائجه لاستعادة المبادرة والتمكين من تجديد نظامها السياسيّ الطائفيّ في إطار إصلاحٍ فوقيّ متكيّفٍ ليس من شأنه إجراء تغييرٍجذريٍّ في بنية النظام وآلياته المسؤولة عما آلت إليه الأوضاع في البلاد من هزائم ونكساتٍ ونهبٍ وفسادٍ وتراجعٍ في كلّ الميادين السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وكلّ ما يمكن أن يؤدّي إليه يدور في إطارإعادة توزيع الأدوار والمواقع والمغانم بين أطراف هذه الطبقة السياسيّة.
تحرير الفلوجة عسكرياً، يُعبِّر بشكل ما عن عودة الوعي، والتشبّث بالإرادة الوطنيّة الكامنة، من قبل أفراد القوات المسلّحة والقوى الشعبية التي شعرت بمهانة الانكسار والهزيمة العسكريّة والمعنويّة بسبب فشل وغباء وخيانة السلطة السياسيّة التي خلقت بنهجها الطائفي وتوجّهاتها الانعزالية التهميشيّة وقيادتها الطامحة للانفراد بالسلطة والانقلاب على القيم الهشّة للدستور ونظام التوافق الوطنيّ، البيئة الملائمة لداعش والقواعد الحاضنة للإرهاب، التي مهّدتْ لسقوط ثلث أراضي البلاد وجعل سكانها رهينة لنظام داعش الجاهليّ.
الإرادة الوطنيّة للقوات المسلّحة والقوى الشعبية الممثلة بالمدنيين من المقاتلين المتطوّعين الذين استنفرتهم الغيرة الوطنيّة والإحساس بالمسؤوليّة من البقاء رهينة قوّة إرهابٍ غاشمة ظلاميّة، هي التي حقّقت النصر في الفلوجة، وستحققها في الموصل وعلى امتداد البلاد. ولم يكن التحدّي سهلاً، لأنَّ القوى المقاتلة لم تكن تُقاتل ضدّ داعش فحسب، وإنّما كانت تحارب ضمنيّاً على الجبهة السياسيّة ضدّ القيادات والكتل المُهيمنة التي لا تريد تعزيز الانتصار العسكريّ بإرساء أُسسٍ وطيدة سياسيّة من شأنها معافاة المجتمع وإشاعة قيم المواطنة الحرّة المتساوية فيه، والإقدام على تدابير تُعيدُ الاعتبار للهويّة الوطنيّة ضدّ كلّ الاعتبارات الطائفيّة وآلياتها الفاسدة. وليس مُمكناً إجراء مثل هذا الخرق من دون لجم كلّ القوى والتشكيلات الاستفزازية التي لا ترى مصلحة لها بنفي وجودها الشّاذِّ في المجتمع وخارج كيان الدولة رغم كونها لم تُصبح دولةً بعد.
بإمكان يقظة " نواة" الجيش والقوّات المسلّحة عبر تضحياتها وما حققته من انتصار أنْ تُصبح منصّةً لتحوّلٍ نوعيٍّ في الوعي المجتمعيّ العام، وأداةً للتلاحم والوحدة الوطنية تُكرِّس توجُّهاً جِديّاً وحقيقياً، بعيداً عن مهرجانات النفاق والخديعة، إلى مصالحةٍ مجتمعيّة شاملة عميقة، وإصلاحٍ جذريٍّ للنظام السياسيّ الطائفيّ، وما ينتح عنه من فسادٍ عامٍّ وهزائمَ وتشوّهاتٍ وأزماتٍ تُعيد إنتاجَ أزماتٍ لا نهايةَ لدورتِها..