(1 – 2)
افتحْ أيّ كتاب للأمثال العربية أو الأجنبية، أو حتى الأمثال الشعبية، ستتحقق أن الأمثال هي كتاب الاستعارة الأثير. لا حاجة للتدليل على ذلك بأمثلة، فالكلّ يستطيع معرفة ذلك باستحضار أيّ مثل يطرأ على باله.من هنا، فإن الاهتمام بالأمثال هو مُواصَلة وتواصُل مع حقل (الشعريات) في جوهر الأمر. إذا ما فهمنا الشعريات بمعنى الخلق الفنيّ والجماليّ، وعلم دراسة الأشكال الأدبية والأسلوبية والسردية ومجازات الخطاب، وعلم الخلق اللفظيّ.الشعريات وليس فن الشعر بالضرورة، رغم أن الأخير يضيء على نطاق واسع حقلها. من المفيد العودة إلى تزيفان تودوروف وهو يتحدث عن نظريات الشعر في التقاليد الأوربية (كما تلخّصها ببراعة موسوعة إلكترونية): التيار الأول طوّر مفهوماً بلاغياً يعتبر الشعر "زخرفة للخطابّ" ومتعة مضافة إلى اللغة العاديّة، والتيار الثاني يبرهن أن الشعر يَقْلِب المَلَكَة العقلانية للغة وهو يتصل بما لا يمكن ترجمته والاتصال به، والتيار الثالث يشدّد على لعبة اللسان الشعريّ الذي يشدّ الانتباه له هو نفسه، أكثر مما يشدّه لمحموله، اي لمعناه.في التقاليد الشعرية العربية، يبدو لنا أن تيارات الشعرية هذه، كانت وما زالت موجودة، متعايشة ومتساكنة، من دون أن يقع التنظير لها بدقة فيما سبق، وبدقة اليوم وهي تستعير أدواتها المفهومية، كلها تقريباً، من مفاهيم الشعريات الاوربية.بعض المناطق العريضة التي تلتقي فيها الشعريات العربية والأوربية تقع في مفاهيم (فن الشعر) الأرسطيّ المحاكاتيّ، كما عند "تخييل" حازم القرطاجنيّ، ومن ثم في لسانيات الجرجاني المبكرة. كانت اليونان نقطة لقاء، بالأمس كما اليوم، بشكلٍ غامضٍ أحياناً وصريح أحياناً أخرى.لكن هل يمكن ترجمة (الشعريات) المخصوصة بثقافة ولغة إلى لغة مغايرة حدّاً كبيراً معروفاً؟ طرأ السؤال على بالنا ونحن نسعى لإنجاز (معجم الأمثال الصينية) المنقول من الفرنسية، وأحياناً قليلة من بعض الإنكليزية. هل يمكن أن تكون الترجمة أمينة وحَذِرَة عندما تكون قد قامت عبر لغة وسيطة قامت بدورها بالنقل من لغة الصين الموصولة بإرث ثقافيّ هائل، ومنطق داخليّ مغاير؟ هل تستطيع الترجمة من لغة وسيطة نقل الرسالة الأصلية، ونقل روح الشعريات التي تعنينا بمقام كبير، إلى اللغة العربية؟
لعل مفهوم (التثاقف) أو (المثاقفة) مفيد في السياق الحالي، وهو يقترح تبادل التأثير الثقافي بين طرفين أو أكثر. في علم الاجتماع، بدءاً، يشير التثاقف إلى التحوّلات التي تطرأ على الثقافات المختلفة التي ترتبط بعلاقة دائمة (وهذا حال ثقافتنا العربية بالصينية منذ اطلبوا العلم ولو كان في الصين). إن العمليات التي ينطوي عليها اللقاء بين الثقافات هي: التفاوت الثقافيّ (الفارق أو الفجوة) والمقاومة والاندماج.على المستوى الفلسفيّ، التثاقف مساءلةٌ لعلاقة الذات بالآخر، ومسألة الغيريّة الضاربة في الفلسفة اليونانية والفكر الإسلاميّ، وإنْ بمنطلقات واستهدافات ليست منطلقاتنا وأهدافنا المعاصرة.الترجمة لهذا السبب قد تشكّل موضوعاً عملياً أساسياً للتثاقف، وإنَّ نقل الشعريات المخصوصة بثقافة إلى ثقافة أخرى، قد يشكّل تطبيقاً فكرياً ومفهومياً وفلسفياً فاعلاً للتثاقف.يتبين للمرء، بعد قليل من التمحيص، أن الأمثال على بساطتها الظاهرية، هي من أعوص مشاكل التثاقف ومن أكثرها تعقيداً في حقلها العمليّ: الترجميّ، وهنا لا نتحدث عن حقل الترجمة اللغويّ الخالص، وإنما انشغال الترجمة بنقل محمولات الأمثال، الداخلية والنفسية والمرجعية، المتراكمة عبر أجيال وعصور. كيف لنا أن نترجم بأمانة مَثَلاً سائراً قديماً كـ (وافق شنّ طبقه) إلى الفرنسية أو الصينية دون التضحية بذلك المحمول، ونحن نختار تعبيراً تقريباً بعيداً تماماً أو مَثلاً آخر، مقطوع الصلة، من إرث اللغة المنقول إليها؟كيف نترجم بأمانة مثلاً شعبياً عراقياً يقول (أبو كروة يبيّن بالعَبْرة) إلى الصينية أو الفرنسية؟
يُتبع
الأمثال هي كتاب الاستعارة الكبير
نشر في: 29 يوليو, 2016: 09:01 م