TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شِدَّة الطائفية

شِدَّة الطائفية

نشر في: 31 أكتوبر, 2012: 11:00 م

جوهر التغيير العراقي عام 2003، ثم التغييرات التي حدثت في بلدان "الربيع العربي"، يتمثل بإنهاء حالة الجمود السياسي. كانت السياسة أسيرة محصنة لا تبارح منزل الأسرة الحاكمة. ثم خرجت منه الى الفضاء العام، ودخلها الناس أفواجا، تحت أطر "عمليات سياسية"مجهولة المصير.

هذا المنعطف هو تغيير جذري في السياسة على مستوى العمل. ولكنه ليس كذلك على مستوى الوعي الذي يقود العمل. فقد كانت "الآيديولوجيا" حاكمة مهيمنة قبل التغيير وبقيت بعده. وما نعنيه بالآيديولوجيا هنا أي فكرة أو عقيدة سياسية معبرة عن وعي زائف، يحمل أهدافا وهمية أو خرافية. الآيديولوجيا، بهذا المعنى، هي نقيض كل سياسة واقعية أو عملية. وموضوعات السياسة العملية هي حياة الناس المادية من أمن واقتصاد وما أشبه. بخلاف "الآيديولوجيا" التي تعطي الأولوية للأفكار المجردة والأهداف البعيدة مثل وحدة الأمة العربية، أو الاسلامية، أو وحدة عمال العالم، أو "الشريعة"، أو سلطة الطائفة أو حكومة العقيدة.

منذ ثورة مصر عام 1952 دخل العالم العربي والاسلامي "مرحلة الثورة" أو "العصر الآيديولوجي". ويكمن اختلافه الجوهري عن "عصر النهضة" الذي سبقه، وايضا عن كل وعي أو فكر واقعي، في أجندة تتقدم فيها الأهداف الخيالية وتتأخر الأهداف الملموسة. في العراق، مثلا، تتشكل الكتل السياسية الكبرى على اساس الطائفة أو المذهب. فما يجمع قوى "التحالف الوطني"، وكلها شيعية، هو "الإتحاد" من أجل تولي السلطة. الأمر نفسه ينطبق على قوى "العراقية" ذات الأغلبية السنية. فالباعث على "اتحادها" طائفي هو الآخر. وفي الحالين فان الأولوية لفكرة الطائفة، وليست المطالب الخاصة بصميم حياة الناس، مثل الأمن أو تحسين المستوى المعاشي أو العدالة.

ومثلما تقسم أولوية "الفكر" أو العقيدة السياسة في العراق بين شيعة وسنة، فإنها هي أيضا ما يقسم السياسة في دول عربية أخرى بين معسكرين، "اسلامي" وعلماني. فليست الزراعة ولا أمن الأرواح ولا زيادة الأجور، هي الموضوعات التي تفصل بين "المعسكرين" في مصر أو تونس. ان الصراع بينهما على "أفكار"، مثل تطبيق الشريعة أو " المدنية"، وليس على مصالح حياتية أو وطنية متعينة محددة، شأن زيادة فرص العمل، أو تجديد التعليم، أو تقليل التطرف في معاناة الفئات المسحوقة.

ان "الآيديولوجيا"، أو العقيدة الخرافية، تلغي الحياة وتمجد الفكرة. في بلد مثل العراق لا يقترع الفرد على أساس أن هذه الكتلة أو ذاك الزعيم سيحسِّن الكهرباء، أو يؤمِّن رعاية صحية أفضل، وانما سينتخب ما يعتقد أنه سيكون حكومة الطائفة أو المذهب. الحياة ليست هي الموضوع وإنما موضوع الحياة هو المذهب.

الملفت في العراق أن قوى "الطائفية السياسية" تخجل من حقيقتها فتخلع على نفسها تسميات مثل "الوطني" و"العراقية". وعن مثل هذه المفارقة قال ديغول يوما: "ليس للشيوعيين الفرنسيين سوى كلمة "ملموس" على شفاههم، مع أنهم أكثر الأحزاب خيالية في العالم". إن الكلمات مجرد ألفاظ لا قيمة لها اذا لم نعمل بها. وكان الوردي قد شخص شيوع ازدواجية الوطنية المعلنة والطائفية المضمرة في العراق، وقال "ان التكتم الذي نلتزمه في نزعتنا الطائفية أخطر علينا من الافصاح والتظاهر". وكان محقا. فلو بكَّرنا في "الشفافية" لطبنا. ولكننا تمسكنا بالكتمان وما رضينا عنه تبديلا فانتشر المرض وصار وباء.

ولعل "الطائفية" هي آخر ذخائر "العصر الآيديولوجي العربي". فما بقي غيرها من شِدَّة بعد غروب الآيديولوجيات العلمانية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: محاكم تفتيش نقابة المحاميين

العمود الثامن: كلمات إماراتية واطلالة عراقية

العمود الثامن: محبة المسيحيين

العمود الثامن: السخرية على الطريقة العراقية

التأثير السياسي التركي في سوريا بعد سقوط الأسد: الأهداف والاستراتيجيات

العمود الثامن: في الولاء الوطني

 علي حسين يعتقد العديد من مسؤولينا أن بلاد الرافدين التي يحكمونها الآن كانت تعيش في عصور الجاهلية، وقد قيض الله لها رجالا ليعيدوها إلى طريق الصواب، ولهذا ليس مهما توفير التنمية والازدهار والتعليم...
علي حسين

كلاكيت: المخرجون عندما يقعون في غرام الأدب

 علاء المفرجي 5 -لوليتا رواية للكاتب الأمريكي من أصل روسي فلاديمير نابوكوف، نُشرت في عام 1955 في باريس، فبطل الرواية همبرت همبرت هو أستاذ أدب في منتصف العمر مريض بشهوة المراهقين، يرتبط بعلاقة...
علاء المفرجي

النُّصيريَّة.. مِن سامراء إلى قرداحة

رشيد الخيون تُنشئ السّياسة المذاهب عند اقترانها بالدِّين، لكنْ بتعاقب الزَّمن، تنسحب وتبقى العقيدة الدّينيَّة خالصة، وبين حين وآخر يُستغل المذهب مِن قبل السَّاسة المنتمين إليه، هذا ما حصل مع النُّصيريَّة بسوريّة، فقد نشأت...
رشيد الخيون

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي* (الحلقة 11)التجربة الامريكيةفي قلب النظام التعليمي الامريكي، تكمن فكرة اللامركزية، حيث تتنحى الحكومة الفيدرالية جانبا لتفسح المجال امام الولايات والحكومات المحلية لتولي زمام الامور. هذا يعني ان كل ولاية، بل كل منطقة...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram