عرف المخيال وصفاً حرجاً في تاريخ الفلسفة الغربية ، إذ اعتبر تارة فعلاً من أفعال الإدراك وعملاً من أعمال الذاكرة . كما اعتبر تارة أخرى نقطة المركز في كل مشكلات الخطأ والوهم ، هذا مع تصنيفه أحيانا ضمن القدرات النفسية التي يختص بها الشعور عند انفصاله عن
عرف المخيال وصفاً حرجاً في تاريخ الفلسفة الغربية ، إذ اعتبر تارة فعلاً من أفعال الإدراك وعملاً من أعمال الذاكرة . كما اعتبر تارة أخرى نقطة المركز في كل مشكلات الخطأ والوهم ، هذا مع تصنيفه أحيانا ضمن القدرات النفسية التي يختص بها الشعور عند انفصاله عن الواقع . وقد جعلت الفلسفة منذ نشأتها من المخيال ذاك الآخر الذي ينبغي عليها العمل على إقصائه وطرده من فضائها لاسيما وإنها سعت منذ البداية الى التمييز عن أنماط فكرية أخرى تستند على الصور التخيلية كالأسطورة والشعر والنقد الأدبي / بول ريكور / الذاكرة ، التاريخ ، النسيان / ت : جورج زيناتي / دار الكتاب الجديدة المتحدة ليبيا 2000/ ص35//.
يلاحظ بأن الفلسفة عرفت نوعاً من التناقض والقلق بعلاقتها مع المخيال ، حيث تنوعت واضطربت مواقفها منه . فهي التي تعاملت معه بوصفه إدراكا ونشاطاً من أنشطة الذاكرة، وهذا هو المتعارف عليه والمتفق أيضا بوضوح ، لكنها اعتبرته في حين آخر من أوهام الحقيقة، وله علاقة بالنفس الإنسانية وعلاقة الشعور / الوعي بها في لحظة يكون فيها منعزلاً عن اليومي / الوقائعي . لكن المثير في كلام بول ريكور هو محاولات الفلسفة منذ زمن مبكر الى محاولات إقصاء المخيال والاستغناء عنه وإغلاق منافذ فضائها الخاص أمامه. والمثير في هذا الموقف هو أنها وضعت أطرا تحديدية لعدد من الفعاليات الثقافية / الفكرية . عرفت بعنايتها بالمخيال مثال ذلك الأسطورة والشعر .
وعرف السرد التخييل الذي تمظهر عن المادة السردية المتحققة ،عبر المتبدي عن حدث أو واقعة معينة . لكنها تفتح أمامه أفقا أو مع أكثر رحابة وتبعده جهد الإمكان عن افتخاراته المتباهي بها ، بسبب علاقته مع الوثائق / والوقائع ، ومثلما قال الروائي واسيني الأعرج : وإذا كان المتخيل ينشأ عن المادة التاريخية فهو لا يعطي قيمة كبيرة للحقيقة التاريخية ، ولكن كاستعارة لشيء صار جزءاً من الذاكرة الجمعية ، لذا تحولت وظيفته في الرواية الى الإيهام والتوقع الاحتمالي البعيد منها الى الحقيقة الثابتة . والاهتمام بالمتخيّل يأخذ الوقائع التاريخية من وظيفتها السياسية ، ليجعل منها نصاً جديداً ، مغايراً وظف في سرد متباين كلياً ، لأنه حاز نوعاً من الابتكار والتخليق لحدث ما ، قادته نحو امتداد كبير في الزمان والمكان ، وهذه احدى صفات المتخيّل التي تجعل من التاريخ هكذا وتنسيه خاصيته المعروفة ، حتى تضعف رصانته الوقائعية . وكما تخسر الوثيقة التاريخية ، كل ما تتمتع به من مميزات ، توفرت عليها ، بسبب الوظيفة ، والغاية التي تشكلت بسببها . من هنا لا يمكن التعامل مع النص التاريخي باعتباره وثيقة وحقيقة. والتعامل معها في فضاء بعيد جوهر السرد . لان ذلك يمثل نوعاً من الاستحالة . ويحوز أخيراً النص المتخيّل علاقاته الجديدة ، التي ما كانت حاضرة في النص التاريخي السابق " ويقبل بترك ثوابته وصرامته ، ويحتمي بالنسبية التي تسبغ على السرد نوعاً من عدم اليقين " كما قال واسيني الأعرج .
يفقد التاريخ أهم خصائصه المعروفة والمتمظهرة من خلال الوثيقة والوقائع ، ويتحول الى نص أدبي / إبداعي جديد ، توفر على قدرة لإعادة إنتاج الوثيقة وإظهارها بنوع سردي مختلف استعار خصائص الكتابة السردية المعروفة ، بعد أن عرف نوعاً من الجدل العميق بين حدثه المرجعي وتبدياته السردية الظاهرة بوضوح معتمدة على المخيال الذي تمكن من انتاج سردية جديدة غير مسؤولة عن التجوهر المركزي في الوثيقة وغادرها باتجاه لحظة سابقة من ماض عميق الغور أحيانا ، أو آخر حدث قبل فترة قصيرة . وتستثمرها القدرة السردية بآلية المخيال ، المزاحمة تماماً لكل ما كان في التاريخ كنص وإحلال النص المخيالي .
المخيال هو الفاعل المهم في إعادة إنتاج التاريخ ومنحه نوعاً من الجدية المعروفة في الأدب وأيضا الحيوية المهارية التي حازت تغيراً بعد استعانتها بالتخيل لتكون نصاً أدبيا وإبداعيا معلناً عن لحظته المركزية في الافتراق عن أصله الحقيقي الوثائقي . " تنقل الهوية الذاتية من كونها شخصية الى كونها سردية ..." حين توضع ضمن سرد " فتصبح الذات موضوعاً له ، فالهوية السردية بناء واقعي لتنسيق التجارب الفاعلة المهمة " ولتحقيق ذلك يلزم ابتكار حبكة السرد ، أي إيجاد صلة قوية بين التجارب الشخصية للذات ، والتاريخ الخاص بها ... يعني العثور على حبكة تفصل بين هذين المستويين ، وتسمح بـ " منح معنى للحياة " هو في الآن ذاته اتجاه ودلالة يمكن للغير فهمها . ثم انتقال السرد من مستوى الفرد الى مستوى الجماعة ، وهو ما يشكل الاتجاه العام للتخيّل التاريخي ، حتى تكون للهوية السردية الجماعية قيمتها الاساسية ، فكل امة أو جماعة ، وهي تسترد تاريخها ، لا تستطيع التخلص من نسيج حكايات حول ماضيها ومزج الخيال بالواقع . ثمة علاقة جدلية بين تاريخ الأمة والحكايات المتخيلة الداعمة لها وعن ذلك تنتج الهوية السردية الجماعية ، لذا فإن التاريخ يصبح قصة مروية ، وتصبح القصص التي ينسجها خيال الأمة تاريخاً ، ويتلاقى الزمان الكوني الخارجي مع الزمان الداخلي المعيش / بول ريكور / الذات عينها كآخر / نقلاً عن عبد الله إبراهيم / التخيل التاريخي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011ص 7//
لعب المخيال دوراً مهماً وبدرجة عالية من الفعالية في تقديم معاونات ثقافية مركزية لقراءة جغرافيات في العالم ، ومنها جغرافية الشرق الذي جعل منه نصاً جديداً متخيلاً كما قال ادورد سعيد ، وقدمه مكشوفاً حتى ينجح بالتعامل معه والسيطرة عليه وهذه أحدى الوظائف المعروفة عن الكولونيالية في توصيف وتحديد الجغرافية المهمة في العالم ، والتي اعتبرها سعيد جغرافية متخيلة واعتنت دراسات ما بعد الكولونيالية بالعلاقة التي جعلت من الشرق آخرَ خاضعاً ومسلوباً من كل مكوناته ، ويستدعى لحظة ما يشاء الآخر، ولعل دراسة أرمن جميل شك من الدراسات المهمة في موضوعة الاستشراق جنسياً حيث أكد على أن الكولونيالية لا تعني حيازة مكانية وإخضاعا عسكريا وتوظيفاً اقتصادياً فحسب ، ( كان أيضا سرداً ، وتخيلاً واستنطاقا ، لا يمكن تجريد خبرة المستعمر ولا المستعمر من القالب الاستطرادي المؤطر للواقع المادي للإمبراطورية / الاستشراق جنسياً ص 105//
السرد ، الذي أنتجته الحبكة ، هو الذي أعاد صوغ الوثيقة التاريخية وقدمها نوعاً رفيعاً من التخيل التاريخي ، وتناسى التاريخ وظيفته الأولى ، التي كان متباهياً بها واكتفى السرد بما هو فاعل في تشكيل المخيال ( من اجل وظيفة جمالية ورمزية ، فالتخيل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي ، ولا يقررها ولا يروج لها ، إنما يستوعبها بوصفها ، ركائز مفسرة لأحداثه / عبد الله إبراهيم / التخيل التاريخي / سبق ذكره ص5//
يضع استثمار التاريخ في إنتاج السرد القاص وجهاً لوجه أمام صعوبات عديدة ، لعل أهمها حضوراً ، هو قدرته في تحويل العنصر المجاني في التاريخ عنصراً وظيفياً في البناء الروائي ... وتبدو الرواية مزروعة في ثرى التاريخ وتوهم بأنها جاءت لاستكماله وملء فراغاته ، هي في الحقيقة ورم سرطاني يستغل هشاشة التاريخ ليستنبت فيه جسداً آخر وخطابا آخر ورؤية أخرى ، أن التاريخ في الرواية مسوغ للعالم التخيلي يكسبه مناعة تعصمه من أن يصبح خيالياً ، وهذا مقوم مهم من ستراتيجيا الرواية التي مهما شطت بها النزعة الى مجافاة الواقع تظل في دائرة محاكاة الحياة ومشاكل الإنسان ، ويضطلع السرد في هذا المقام بدور التمثيل الذي لا يحاكي ، لأنه ينشر المفارق من رحم المماثل .... ولكي نقرأ الرواية التاريخية ، لابد من استنفار آليات مخصوصة تمكن بها فك الارتباط بين المرجعي والتخييلي وبين خطاب السلطة الذي يتحلى في التاريخ وسلطة الخطاب التي تتجلى في الرواية / محمد القاضي / توظيف المادة التاريخية في الرواية / ندوة الرواية والتاريخ / الدوحة / 2005/ ص 127ـ 128//
منح كاستو ريادس في كتابة " تأسس المجتمع تخيلياً " صلة مباشرة وقوية مع التخيّل ، ومن غير الممكن تصور تفاصيل التاريخ ومروياته السردية بعيداً عن المخيال المنتج والخلاق ، أو خارج ما اسماه الباحث بالمتخيل الجذري ، وأحال تشكلات العالم الاجتماعي وترابط قوانينه لمنظومة الدلالات الراشحة عن الشبكة الرمزية المتداولة اتصاليا والمكرسة بالتوتر عبر بلاغة اتفاق ثقافي واجتماعي تواصلي وقال : توجد هذه الدلالات ضمن نسق المتخيل الفعلي / أو المبتكر ، ولا يمكننا إلا قياسا على هذه الدلالات أن نفهم في آن معاً " اختبار " كل مجتمع لرمزيته ، وعلى الأخص رمزيته المؤسسية ، والغايات التي يخضع لها " الوظيفية " نقلاً عن : ناجح المعموري / القرابات المتخيلة / دار تموز / دمشق 212/ ص156//