TOP

جريدة المدى > عام > رحلة "جيان" من دلمون الى بغداد

رحلة "جيان" من دلمون الى بغداد

نشر في: 31 يناير, 2017: 12:01 ص

شاءت الصدف أن يقع نظري  في معرض الشارقة الدولي للكتاب على رواية الكاتب العراقي"جيان"(يحيى عبدالمجيد بابان) الصادرة عن دار " المدى " وعنوانها "  المرفأ وبغداد". وأول ما يعن للقارئ لدى مطالعتها انها امتداد لأصداء السيرة الذاتية التي بدأها الك

شاءت الصدف أن يقع نظري  في معرض الشارقة الدولي للكتاب على رواية الكاتب العراقي"جيان"(يحيى عبدالمجيد بابان) الصادرة عن دار " المدى " وعنوانها "  المرفأ وبغداد". وأول ما يعن للقارئ لدى مطالعتها انها امتداد لأصداء السيرة الذاتية التي بدأها الكاتب في روايته السابقة " دلمون" عن فترة فتوته العاصفة التي قضاها في البحرين بعد هروبه من أجهزة القمع في العراق.

لقد تعرفت على "جيان" في فترة الخمسينيات ، وبالذات في القبو في الحيدرخانة حيث وجدت مطبعة " الأمة". وقد اتخذت ادارة المجلة المؤلفة مني شخصيا والشاعر صادق الصائغ بدعم من الدكتور صلاح خالص من هذا القبو مقراً لها. وهناك بالذات جاء إلينا يحيى في احدى الامسيات بعد فوز قصته "نزوة " في مسابقة احسن قصة التي نظمتها المجلة. ومنذ ذلك الحين ربطتني بالكاتب أواصر صداقة حميمة حتى بعد ان فرّق بيننا المهجر حيت استقر بي المقام في موسكو، بينما سافر جيان الى براغ بعد انقلاب شباط 1963 ،وعمل فترة طويلة في اذاعتها باللغة العربية. ولئن كان انتاج جيان في العراق وافراً من القصص والمسرحيات المنشورة في الصحف العراقية والعربية ، فانه اصبح مقلا في الكتابة خلال عمله في براغ ، شأنه في ذلك شأن الكثير من المواهب البارزة التي اضطرتها الظروف للهجرة الى الخارج . لأن العمل في سبيل كسب الرزق كان يستنزف جميع جهده . لاسيما ان الكتّاب الشباب غالبا ما لا يستطيعون الحصول على مكافأة من الناشرين.. البخلاء عادة. وأذكر بهذا الصدد كيف دفعت احدى دور النشر اللبنانية مبلغا زهيدا الى غائب طعمة فرمان يبلغ نحو 500 دولار لقاء نشر احدى رواياته. وفي ايامنا يطلب الناشرون من الكاتب ان يتحمل نفسه نفقات نشر روايته مقابل تسليم جزء من النسخ ، وهذا ما حدث لدى نشر جيان  رواية "دلمون" من قبل دار الفارابي اللبنانية. ولابد من الاشارة الى ان الحكومات المتعاقبة تقف بعيدا عن مهمة نشر ابداع المؤلفين ، ولا تفعل ذلك إلا فيما ندر وعلى أساس المحسوبية.
لقد طالعت "دلمون" باكورة الانتاج الروائي للكاتب في حينه بإهتمام كبير ، وسرني ان كاتبها لم يساير "الموضة" في الميدان الروائي كما فعل ذلك غيره من كتاب الرواية العراقية ، في تصوير عالم مترع بالخيالات ،واللجوء الى المجاز في التعبير ،  وعدم التطرق الى مشاكل الانسان العادي ومعاناته اليومية، بل آثر جيان الالتزام بالنهج الواقعي في تصوير الشخوص والاحداث كما يراها يوميا. وفي واقع الأمر انه إلتزم بالقيم الجمالية التي ميزت الادب الواقعي العربي في القرن العشرين من امثال نجيب محفوظ وحنا مينه وسعيد حورانية. وثمة أمر من الضروري ان أوضحه هو ان جيان تابع دوما الحركة الادبية العربية والعالمية ولم يكن بعيدا عن موجات الابداع في زمانه. فقد نخل المكتبات وعرف كل ما فيها ، لكنه رفض الانصياع الى احكام " الموضات"، فالانسان المبدع حرٌّ في اختيار الموضوع واسلوب التعبير عنه ، كما انه حرٌّ في تجسيد احداث عصره.
تتضمن الرواية الحالية عدة مسارات: تاريخي وفلسفي واجتماعي ومعرفي. واراد الكاتب ان يصور بغداد في مرحلة تاريخية معينة عاشها بنفسه ، ويمكن بواسطتها معرفة اوضاع السلطة واتجاهات تفكير الناس والمؤثرات الخارجية – السياسية والاقتصادية والثقافية في عراق ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي فترات وثبة كانون الثاني وانتفاضة تشرين والنضال في سبيل الاستقلال الحقيقي. كما يظهر علاقة الشاب العراقي بالمرأة ، ويتحدث عن المشاكل الاجتماعية للعائلة العراقية البسيطة وهموم كسب الرزق ، وعن اهتمامات الشاب العراقي الثقافية ومراكز تجمع المثقفين في بغداد . وينطلق جيان في تصوير ذلك كله من تجاربه الخاصة في ختام رحلة العمر حين تجاوز سن السبعين ، وبعد ان تكدست لديه فيها شتى الخبرات والمعارف.
ان ابراهيم بطل رواية "المرفأ وبغداد" أبعدته السلطات من دلمون (البحرين) بسبب نشاطه الصحفي، ووصل البصرة بلا هوية او جواز سفر ، واحتال على رجال الأمن العراقيين في التسلل من السفينة البدائية ، والمجئ الى بيت اخته في البصرة ومن ثم انتقاله الى بغداد حيث والديه. ويقدم "جيان" وصفا جميلا  لعمل ابراهيم في الصحراء حيث لا يتطلب التوظيف توفر " وثائق رسمية". وكان لابد له من العمل لأن " حرمان الانسان من حقه في العمل يجعله جائعا وربما متسولا" حسب قول أبيه. والانسان بحكم كونه انسانا يمتع بالحق في ألا يجوع  ولا يظمأ ولا يتعرى ولا يمرض بسبب الفقر.
ويلتقي ابراهيم في مقهى عارف " الشلة " من الاصدقاء القدامى وبينهم بعض الطلاب من البحرين ورفيقه الخطاط في الصحف التي كان يكتب فيها ، وراح يواصل نشاطه في الكتابة " بالقطعة" في بعض الصحف. وينقلنا الكاتب الى عوالم تاريخ العراق القديم وحضارته العريقة المنسية الآن .
فيورد عبارات من رسائل صديقه الباريسي:" قبل اربعة الآف سنة او تزيد ابدع السومريون (القوس) بعد ان اهتدوا الي ثني عيدان القصب ،  ثم اصبح القوس فيما بعد اساسا في معمارية بناء السقوف البالغة العلو ، ملزمة الانسان الواقف تحتها الى رفع رأسه نحو السماء ، نحو فضاء الكنائس والكاتدرائيات..في فرنسا واوروبا القرون الوسطى ..".
وفي موضع آخر يقول : واصلت شهرزاد حكاياتها ، فهل كانت هناك مقاومة لها ولبنات جنسها ضد قرار الحكم عليهن ، معمولا به جورا بهذا الشكل او آخر حتى الآن؟". ويظهر تفسير ابراهيم لها  في انها تجسد استعلاء  الحاكم على المحكومين عامة والنساء خاصة.
ان مثل هذه المواضيع تشكل لبَّ الحوار بين شلة ابراهيم من اصدقاء الصبا لدى جلوسهم في احد مقاصف شارع ابو نؤاس حيث يطرح كل منهم فلسفته في الحياة ومواقفه من الاحداث الجارية في البلاد في اواخر الخمسينيات، مع شرب اقداح الجعة وتناول المازة.
كما ان السياسة تشغل حيزا كبيرا من صفحات الرواية. فإن علوي احد الابطال يصف طالبات وطلاب كليته ، الصيدلة في بغداد، بقوله " انهم ينقنقون بالسياسة مثل ضفادع البستان".بينما يقول ابراهيم لصديقه الرسام جوني: "اذكر تخطيطاتك عن معركة المتظاهرين مع الشرطة في باب الشيخ في 1952. في الصورة – التخطيط - ترى الشرطة متحصنين  وسط الشارع ببضعة امتار عن باب مركزهم في منطقة باب الشيخ... وثمة فسحة فراغ تمتد ربما لأكثر من مائة متر .. وهناك تناثرت بكثافة قطع الحجارة والطابوق وبضعة اجساد قتلى وجرحى مطروحين على الاسفلت"...
وتحدث جوني عن معركة ساحة المربعة  في عام 1956 في بغداد عند رصيف مخزن باتا للأحذية وضد الشرطة... كانوا هم راكضين مع الجموع باتجاه سينما الزوراء وبدا مرئيا وميض طلقات رشاشات قوات الجيش التي احتلت العاصمة يومذاك وصاحب الوميض دوي في الفضاء فوق جسر المأمون وشهب الرصاص مرتفعة منحنية منطفئة ما فوق مجرى النهر شبه المعتم.
ويصف الكاتب احداث 14 تموز 1958 وصفا دقيقا للاحداث: عند جسر الصالحية في مدينته تعطلت كما يرى ابراهيم حركة النقليات.. ولا أثر لشرطي او شرطة في المنطقة ..متجها نحو باب المعظم و نحو مقهى عارف... كانت ضغوطات الناس المتظاهرين تزداد شدة وتتداخل الهتافات والاهازيج لالآف الحناجر... وقد سمع العبيدي احد العاملين في الاذاعة صباح ذاك اليوم في 14 تموز اخبار اقتحام قوات الجيش قصر الرحاب الملكي وقصر الزهور وقتل الوصي عبدالاله ثم الملك فيصل الثاني وذوبان الدولة والسلطة . وحينها بدا مرتجف الاطراف عاجزا عن الوقوف داخل مطبخ بيته منصتا الى المذياع. وهناك في محطة الاذاعة يتعرف البطل ابراهيم الى المسرحي نوري والآنسة سوسن ويدخل في حياة الاذاعة والتلفزيون بعد ثورة تموز. وبعد ذلك يورد الكاتب احداث ما بعد الثورة وتمرد الموصل والتوتر بين بغداد والقاهرة في تشابك مع حياة ابطال الرواية. وحسب قوله فان الثورة والفوضى مترابطان ..هذا ما عاشه وعرفه عن الاحداث في الموصل. كما يتطرق ابطاله للحديث عن احداث المجر واجراء مقارنة لها مع ما يجري على الساحة العربية و" المماحكات السياسية" التي تفرق ما بين الناس واجراءات عبدالكريم قاسم الاصلاحية التي اجهضت، وفشل محاولة اغتياله. ان احداث الرواية عموما تـأتي بمثابة توثيق لهذه الفترة الزمنية بأسلوب شائق .
ان علاقة ابراهيم بطل الرواية مع سوسن " المثقفة" تعيد الى ذهنه تجاربه النسائية في دلمون ، وتحمله الذاكرة الى المرفأ هناك واللقاءات الخفية مع حبيبته خوفا من انكشف امرهما. ونجده يواجه المشكلة نفسها في العلاقة مع سوسن :" منذ تألفهما يسرقان الفرص والوقت ..وضعهما يشبه  وضع معتقلين وزنزانتهما متقابلتان ووجهاهما وراء نافذتيهما... انهما يمشيان عبر جسر المأمون نحو شارع الرشيد بإتجاه محل سكناها في العيواضية . هكذا اعتادا الاتفاق ما بعد ساعات العمل  على اللقاء معا ويخاتلان الزمن للانفراد بنفسيهما بعض الوقت". انه يحتفظ في ذاكرته بعد اللقاء مع سوسن حركة رأسها وخصلات شعرها والساقين والعينين وضربات كعب حذائها على الاسفلت. انها المشكلة الابدية للعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع العربي المحافظ الى حد اللامعقول.
والرواية زاخرة بالاحاديث عن فيلليني وبيكاسو وبلزاك وعن السريالية والتكعيبية وبأقوال الفلاسفة والامثال التي دسها الكاتب عن قصد في نص الرواية ربما لأهداف معرفية.
ان "جيان " يقدم لنا رواية ستأخذ بلا ريب مكانتها بين الاعمال الروائية العريقة المتميزة الى جانب اعمال غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وعشرات الادباء العراقيين المغتربين الذين ظهروا في العقود الاخيرة من السنين ولكل واحد منهم دوره في تشكيل الرواية العراقية الحديثة. وعبثا ان يحاول البعض نسب اعمالهم الى "الادب المغترب" لكونها تتناول المواضيع العراقية الخالصة ، ولكن برؤية معمقة بحكم تنامي ثقافة الكاتب المغترب واتصاله بأدب البلاد التي يقطن فيها والاستفادة من منجزاته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد سهيل احمد

    شكرا للمدى الزاهرة وشكرا للكاتب الجميل عبد الله حبة .نص قصصي للكاتب بابان جعلني ابحث عنه عقودا من الزمن . ولم يسعفني الحظ في اللقاء به شانه شأن آخرين لم التقهم مثل المرحوم عبد المجيد لطفي والراحل انور الغساني الذي جاورته مترجما في ملحق الجمهورية الادبي وآ

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

عدد جديد من مجلة (المورد) المحكمة زاخر بالبحوث العلمية

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram