TOP

جريدة المدى > عام > الدقة والأمانة في الترجمة

الدقة والأمانة في الترجمة

نشر في: 4 فبراير, 2017: 12:01 ص

1-2تقتصر هذه المداخلة، بالدرجة الأولى على ترجمة مسرحيات مكبث وهاملت والملك لير من جانب، وعلى ترجمة يوليسيس من جانب آخر، فربّما على ضوئها قد نتوصّل إلى معنى أوفى وأشمل، لِما تعنيه الدقة والأمانة في الترجمة. لا ريب تبدو الدقة والأمانة في الوهلة ال

1-2
تقتصر هذه المداخلة، بالدرجة الأولى على ترجمة مسرحيات مكبث وهاملت والملك لير من جانب،
 وعلى ترجمة يوليسيس من جانب آخر، فربّما على ضوئها قد نتوصّل إلى معنى أوفى وأشمل، لِما تعنيه الدقة والأمانة في الترجمة. لا ريب تبدو الدقة والأمانة في الوهلة الأولى كلمتين واضحتين لا اختلاف عليهما ولكنْ  عند التمعن فيهما، تستغلقان، فإذا هما غير ما تعارفنا عليهما. كيف نقيس الدقة؟ وبأيّ معيار نزن الأمانة؟ والسؤال الأخطر هل الدقة والأمانة وحدهما كفيلتان بجودة الترجمة؟

 لنأخذْ مثلاً: المترجم البريطاني مايكل هامبيرغر، وهو متخصص بترجمة الشاعر الألماني هيلدرلن.   المعروف انه ترجم له قصيدة "خبز وخمر" ثلاث مرات، مرّتين نثراً ومرّةً شعراً. عند مقارنة تلك الترجمات، نجد اختلافات ليست هيّنة بين القصيدتين المترجمتين نثراً، من ناحية، وبينهما وبين النص المترجم شعراً.  لماذا؟ النصّ واحد، والمترجم هو هو. إذنْ بأية ترجمة نثق؟ وبأيّ منها كان المترجم أكثر أمانة؟
ولماذا رأى هامبيرغر أنه من الضرورة ترجمتها ثلاث مرات؟ نستدلّ من مَثًلِ هامبيرغر أن هناك معياراً أو معايير أخرى لاختبار الترجمة، قوّتها وضعفها. وحتى تتوضّح الصورة أكثر، لنتوقف قليلاً عند مفهوم الترجمة في المدرسة الإنكليزية متمثلة بأحدث
ترجمة لألف ليلة وليلة، وفي المدرسة الأمريكية متمثلة، بكتاب " ترجمات إزرا باوند" قام المترجمان الانكليزيان مالكولم سى. ليونز و اورسولا ليونزبأحدث ترجمة لألف ليلة وليلة أو  The Arabian Nights ، وصدّراها بـ" ملاحظة  عن الترجمة" رسما فيها نهجهما في ترجمة هذا النص. أكثر من ذلك نتعرف فيها على إلمام المترجمين بالبيئة المصرية  رواة ومستمعين. قالا عن رواة الليالي العربية:" كانوا غير مهتمين بالحياة، وإنما بالرزق".
سيكون لهذه الملاحظة العابرة تأثير مهم في ترجمتهما. والجدير بالذكر أن أدوارد  لين لاحظ في كتابه :
Manners and Customs of Modern Egyptians 1836)) ، كيف أنّ رواة الليالي العربية يبيحون لأنفسهم تغيير النص حسب مقتضى الحال، ويذكران أن نجاح الرواة كان  لا يعتمد  على الخلق فقط، وإنما على ما يقدمونه من مواد مثيرة للجمهور¬¬¬¬¬، كالحشو Tautology ، والتعابير الميسّرة، والتكرار.
من التأثيرات الأخرى الأساسية، في الليالي العربية كما يقول المترجمان هو السجع  Rhymed prose، لا لوقعهما  المباشر المثير على الأذن ولكن لقابليتهما على تبطئة السرد. يقول المترجمان: "العكس هو ما حاولناه فغايتنا هو تسريع الإيقاع ليكون مصنوعاً لعين القارئ وليس لأذنه".
إن تغيير تقنية السرد من العين إلى الأذن، وعن وعي، لتناسب بيئة القارئ الإنكليزي المعاصر اجتهاد لا علاقة له بالدقة والأمانة.
إذا تركنا جانبا الترجمات الأكاديمية، كترجمة ملحمة كلكامش والأدب الكلاسيكي وعلى رأسها الشعر الجاهلي، فإنّ المدرسة الإنكليزية في الترجمة معنية أساساً بتكييف النص لذائقة القارئ المعاصر، وليس أدل على ذلك من ترجمة ألف ليلة وليلة، أوترجمة رباعيات الخيام لفيتزجيرالد، أو ترجمة ملحمة كلكامش لديفد ميتشيل الذي ترجمها شعراً ولم يكن ملمّاً بأية لغة سومرية أو بابلية أو آشورية. أراد أن يقربها للقارئ فجمع الترجمات القديمة لملحمة كلكامش، وراح يقارن بينها ويأخذ ما يناسب ذائقته الشعرية.
أمّا المدرسة الأمريكية المتمثلة بالشاعر والناقد إزرا باوند، فأكثر جرأة.  يلخص هيو كينر  Hugh Kenner  في مقدمته المحكمة لكتاب The translation of Ezra Pound
أهمّ نظريات باوند في الترجمة. قال كينر:" يتمتع باوند بالشجاعة والدهاء" وهمّه في الترجمة "صنع شكل جديد متماثل في التأثير كما هو تأثيره في الأصل، وهو ما يوسّع من آفاق الشعر الإنكليزي". ويقول أيضاً "الترجمة بالنسبة إلى باوند لا تختلف من حيثُ الجوهر عن أيّ تأليف شعري. فبينما الشاعر يبدأ عن طريق الرؤية، كذلك المترجم يبدأ عن طريق القراءة، ولكنْ يجب أن تكون قراءته نوعاً من الرؤية". أكثر من ذلك حاول باوند أن يوجد ¬¬¬¬¬في اللغة الإنكليزية محاكاة لإيقاع  وأسلوب الرجال الأموات، وغالبيتهم من الشعراء ما داموا هم من دون الرجال الأكثر وعياً ببيئتهم، والبيئة هي التي يحاول باوند أن يمسك بها".
أمّا  عن ترجماته عن كونفوشيوس فيقول هيو كينر:" ترجمات إزرا باوند هنا ما هي إلا تبادلات بين أصوات الأحياء وشخصياتها مع أصوات الأموات وشخصياتها". بكلمات أخرى كان إزرا باوند يطوّع النص، شرط أن يبقى المترجم "أمينا للصور الشعرية المتوالية الأصلية". بعبارة أخرى انصبّ اهتمام باوند على الإتيان بالجديد أسلوباً ووزناً لإخصاب اللغة الإنكليزية، فمن ناحية حاول نقل حتى الإيقاعات الموسيقية الأجنبية وزرقها في الإيقاعات الإنكليزية. بالإضافة اجتهد في التغيير ولإضافة  والحذف فحينما " تقرأ ترجمته لكونفوشيوس،  فإنما تقرأ نصّين كتبهما شخصان في آن واحد هما كونفوشيوس وباوند".
  قد يجمل التذكير هنا بأوّل أو ربما بأول مترجم في التأريخ آسمه شين نيقي نينيني الذي ترجم ملحمة كلكامش من البابلية إلى الآشورية. جوّز هذا المترجم الرائد التقديم والتأخير والحذف والإضافة. فهل نشك في دقته وأمانته؟
على أية حال، كان إزرا باوند ينشد في الترجمة إغناء اللغة الإنكليزية  وتجديدها بأساليب لم تألفها من قبل. وعلى هذا استقبلت اجتهاداته في حينها بالترحاب والاستبشار. وهذا عكس ما ألفناه من علمائنا القدامى كالأصمعي، وأبو عمر بن العلاء وابن الأعرابي الذين أنكروا على الشعراء المولدين شاعريتهم.
قد يكون من الطريف أن نقتبس ما قاله ابن خلدون في مقدمته (ص 731) في مناسبة أخرى :"إن الحصول على ملكة البلاغة وتدعى ...الذوق فلا بدّ من التحلّي بمزايا اللسان العربي فإذا كان له ذلك فلا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة عند العرب، فإن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجّه ونبا عنه سمعه..." أمّا محاولة باوند في نقل الموسيقى الشعرية من لغة إلى لغة أخرى، وهي مستحيلة، فلم تدخل في العروض الشعري الإنكليزي، مما يدلّ على أنها لم تكنْ موفقة. ذكرتُ في مقالات سابقة أنّ الخيال السمعي لا يترجم لأنه ابن بيئة لغوية خاصة بأبنائها. من ذلك مثلاً الآية الكريمة :" فأجاءها المخاض إلى جذع النخل" أولاً: أجأته إليه أيْ ألجأته، واضطررته إليه. قال زهير:
وجارٍ سار معتمداً إليكم      أجاءتْه المخافةُ والرجاءُ
قال الزمخشري:"فأجاءها منقول من جاء، إلاّ أنّ استعماله قد تغيّر بعد النقل إلى معنى الإلجاء". لم يذكر الزمخشري لماذا تغيّر، وما وجة الضرورة إلى نقله من جاء إلى أجاء، ما دامت ألجأ موجودة. أضف إلى ذلك أنّ معنى الجيئة: الدم الذي يخرج من الجرح. ثمّ ما أقرب فأجاءها المخاض إلى فاجأها المخاض. أكثر من ذلك لو كررنا فأجاءها عدة مرات وبسرعة لأصبحت فاجأها. لا يخفى إنّ إيقاع حروف فأجاءها التي تتراوح من الشفة (الفاء) إلى البلعوم (الهاء) وصعوبة نطق تدرجاتها  الصوتية، لا يدلّ على المخاض فحسب، ولكنه يتداعى ويتصادى إلى أحاسيس لا يمكن الإحاطة بها بالكلمات. كيف يتمكن للمترجم ان يجمع في ترجمته لتلك الآية، مجيء المخاض ومفاجأته، وكيف يضيف إليها الدم وهو غير موجود، أو في الاقلّ غيرظاهر في النصّ، وكيف يمكن له أن ينقل التدرجات الصوتية من الشفة إلى البلعوم؟ (1) (ثمّة مصطلح نقدي مفيد باللغة الإنكليزية هو: Portmanteau word  والمقصود به كلمة مختارة بعناية تمزج موسيقى كلمتيْن وتشتمل على معنى لكلمتيْ أخريين. ذكر هذا المصطلح "ديرك أتريج" في تحليله لرواية : "السهر على جثمان فينيكان"The Finnegan Wake (أنظر كتابه :"كيف تقرأ جويس" ص.94- 103).
وماذا عن كلمة ضيزى في الآية الكريمة :"ألكم الذَّكَرُ وله الأنثى. تلك إذن قسمةٌ ضيزى"  (سورة النجم) هل نكتفي بالقول مطمئنين، بأنها تعني: قسمة غير عادلة أو جائرة؟ فاجتماع حروفها بهذه الصورة المرعبة يثير في الأذن العربية استدلالات صوتية أو ما يسمى باللاتينية  في الاشمئزاز والتهكم والحيف.  Onomatopoeia بالمثابة نفسها، لنتوقّفْ عند البيت التالي لأحمد شوقي، وهو يتحدث عن عروس النيل وعن طقوس إلقاء أجمل فتاة فيه، لتهدأ سورته:
زُفّتْ إلى مَلِكِ الملوك يحثُّها       دينٌ ويدفعُها هوىً وتشوّقُ
جمع شوقي في كلمة "زُفّتْ" عدة معانٍ: زفاف العروس، وهو المراد، ورمي الطائر بنفسه وبسط جناحيه، بالإضافة إلى المعنى العام أيْ أسرعَ، كما في الآية الكريمة:
"فأقبلوا إليه يزفّون". ثمّ ان :"زُفّتْ" بصيغتها المبنية للمجهول، إنما جعلها شوقي منضمّة إلى بعضها، وكأنها حمامة ملمومة يدور حولها طيرٌ ذَكَرٌ بغلمة وانتفاخ حوصلة. كذا النيل بموج متهادٍ منتفخ سيتزوج عروسه الجميلة.
لم يذكر أحمد شوقي في البيت أعلاه نهر النيل بالاسم، ولكنّه كنّى عليه بـ "ملك الملوك". الصيغة الإيقاعية لملك الملوك (ميم مفتوحة فكاف مكسورة، ثمّ الواو الممتدة في الملوك توحي أوّلاً بحركة متموجة : التمام  فانبساط ، وثانياً بجريان الماء. أكثر من ذلك، حينما أضفى الشاعر على النهر صفة التفرد، بين الأنهار، أيْ : "ملك الملوك"، إنما أضفى عليه مكاناً عالياً، إنما أضفى عليه صفة السموّ والرفعة، مما يتناسب مع معاني "زُفَّت" في السرعة = الجريان، وفي السموّ = جناح الطائر، وفي تهادي الموج = ملك الملوك.
قد يجد القارئ تداعيات أخرى بين شراع الزورق وجناح الطائر. لكنْ أهمّ من ذلك، استعمال حرف الهاء في البيت أعلاه. ففي "يحثها" و"يدفعها" قامت  الهاء مقام الريح في الدفع، وكأنّ ها: في نهايتهما تعني هيّا. أمّا الهاء في هوىً فقامت مقام زفير لذيذ لا بدّ منه، يصاحب الإنسان في البداية عادةً عندما يدخل في الماء.(2)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

عدد جديد من مجلة (المورد) المحكمة زاخر بالبحوث العلمية

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram