يقول الأستاذ ريجارد ابهارت Reichard Ebhart وهو شاعر معروف واستاذ للشعر في جامعة كونكتكت Connecticut: حين يسألونني "لماذا تكتبه شعراً؟ يكون الجواب الجاهز لدي دائماً : لأنه أسهل لي ..،،" في هذه الإجابة، حدد واقعاً عملياً لما يختاره الأديب الكات
يقول الأستاذ ريجارد ابهارت Reichard Ebhart وهو شاعر معروف واستاذ للشعر في جامعة كونكتكت Connecticut: حين يسألونني "لماذا تكتبه شعراً؟ يكون الجواب الجاهز لدي دائماً : لأنه أسهل لي ..،،" في هذه الإجابة، حدد واقعاً عملياً لما يختاره الأديب الكاتب من أجناس للكتابة : شعراً، مقالة أو رواية. الشاعر أسهل له أن يكتب شعراً. وقوله : "الإنسان يكتب شعراً لأنه يدع نفسه في حال من النشوة.." يستكمل فيه القول الأول ويكون قدم تفسيراً.
الاعتراض الآن، هل كل الموضوعات يمكن كتابتها شعراً؟ طبعاً لا. لأنه لا يستطيع ان يكتب المقالة موزونة أو بلغة استعارية ومنطق المقالة غير مسار القصيدة. ولكي لا نطيل على القارئ، وعلى أنفسنا، نقول : النثر أكثر ملاءمة للشرح، للإيضاح والإقناع. وهنا يظل الشعر لموضوعات "متعالية" أو متنائية عن مهمة الإيضاح كما عن نوع الموضوعات، ونحن حين نكتب شعراً، نهب انفسنا للنشوة، كما يقول ابهارت او نهب النشوة لأنفسنا، كما يستدرك .. نحن نتصل بالحلم أو البهجة... نتوسل لهذه بأن نفيد من أسرار اللغة، إشعاعاتها الدلالية وموسيقاها التي لا يسمعها مكتملة إلا الشاعر. نحن نتابع جمال الصياغات الخاصة وبهجة المهارات. هذه مبهجات تلامسك وأنت تكتب الشعر أو وانت تقرؤه.
حسناً، إذا كتبنا نثراً بلغة الشعر، أناقة عبارة وزخارف بلاغة؟ في حال طيبة كهذه، ستحظى ببعض من الشعر ويبقى الكثير من فعل الشعر والذي لا يصل إلا من خلال قصيدة بمزايا الشعر التي ذكرناها، فإذا افتقدنا اللغة "النبيلة" وامتيازات القصيدة في الكتابة النثرية، فهنا الكارثة! لا يبقى من الشعر شيء وستتم الإزاحة الى جنس أدبي أو نمط كتابي آخر. نحن بفعل مثل ذاك نكون قد جردنا النص المكتوب من الزي الجميل والأوسمة، من جمال الحياة وجمال الموسيقى، من الإيماءات السرية التي تصلك بالمعاني البعيدة وكوامن الجوهر الروحي.
السؤال الآن : أمثل هذا النقد هو الذي جعل الشعر لا يُقرأ هذه الأيام؟ وهو ما جعل، أو صنع، من الشاعر خطيباً أو مقالياً في حين وسارداً حينا آخر وهو يكتب شعراً؟ هل هذا هو ما أفقده امتياز الاشعاع الملون دائم الامتاع ... وحتى التوقف؟ النثر عموماً رتيب إن لم يتمتع بحظ من الشعر. بينما الشعر يجعلك متألقاً حين تكتبه وغالباً حين تقرؤه إلا إذا افتقد إشعاع الشعر، فسيخمد حينها ويعود رتيباً، بل ومخيباً! من أسرارِ القصيدة، وفضائلها، أنها تجعلك في علاقة حب مع حياة في مكان وحميماً لشيء بعيداً عنك ..
فهل كان هذا من قبل مدعاة قراءة وسماع؟ وهل قلّتْ دواعي القراءة بافتقاد ذلك؟ أو لا يسِمُكَ الشعر العظيم، وانت تقرؤه، بكونية، برِفْعة ويهبك بهجة غير متاحة؟
لا نقلل من شأن النثر، مقالة أو سواها، النثر للمعرفة والشعر، بإشكاله، لإضاءة الداخل وكشف المعنى الأخر. هو للقوة الروحية لا قوة العمل والإنجاز.
طبيعة الشعر طبيعة خلاقة لا تنفيذية. ليس المقصود هنا تزكية اللامفهوم. اللامفهوم قد تكون له براعة خاصة في النفاذ وإيقاد الضوء شرط أن تكون وراءه ثقافة، لا سذاجة أدبية. ما نقصده هو القدرة على إثارة الأسئلة وعلى تعداد الرؤى وعلى تلك القوة النادرة التي تبدع لنا عالماً داخل هذا العالم! إذا لم يفعل ذلك، فهو كلام ..
أظن التحسس الزائد من غموض الشعر لا ضرورة له، ما دامت التماسات مع الروح تستأثر بالنص وما دمنا نجد فيه ما يجعلنا نلاحقه. للأسف هذا ما يعمل المنطق "العقلي" على إتلافه!
بهذا العرض، أو التمهيد، نكون في حال لا الاسترخاء ونحن نكتب ولكن في حال الشعور بالمقدرة على الإتيان بلغة خاصة لصنع عالم أو لإضاءة حياة أو لإسعاد روح، بالتعبير عما في ارواحنا أو بمنحها لمسة حبٍ وقطراتِ رحيق تعيش عليها.
من قراءاتنا للنقد ومن اعترافات الشعراء في مذكراتهم أو في الحوارات، نستطيع القول بأن هناك فلسفات أو مسوغات للقول الشعري ولنوع هذا القول. أحياناً يفتعل بعض من الشعراء أعذاراً غير مقنعة علمياً وواضحةً الصنعةُ فيها حين يتركون منطقة الشعر إلى دعوات الخارج. وهذا شبيه بعمل النحاة حين يجهدون أنفسهم لإيجاد "مخارج" أو حسن تخلص، أو تسويغ إرضائي للخروج عن القاعدة، هذا عمل جيد وصحيح في رأيي من حيث أنه نشاط عقلي ولإنقاذ حرية الكاتب أو المتكلم من الموانع المتوارثة. هو نوع من فتح الباب بقوة. لكن ، من الناحية الأخرى، لا نريده باباً للتزييف وعدم الإقرار بالحقيقة. بالنسبة للشاعر الّا يسحبه الضعف أو الإغراء لخيانة مهمته الشعرية وقداسة الفن. لا نريد الشعر وسيلة إرضاء أو خادماً بأجر. لنعلن سبب الانحراف ونجد عذراً اجتماعياً ونحتفظ بجلال الفن..
هذه اعتراضات، عوارض زائلة، يبقى المهم والجاد هو أن الشاعر فرد في انفعاله وفي رؤيته وفي الحال العاطفية أو المزاجية التي هو فيها، وحتى حين يتبنى فلسفة أو رؤيا اجتماعية، هو بمنحها حضوراً آخر عليه سماتهُ هو وأضواء روحه ولغتُه المعبرة عن ذلك. هي من أملاكه الخاصة، والمعروفة عنده. ولكي يكتشف لابد من حضوره الشخصي، الذاتي الخاص، وأن يمتلك حريته ولغته المؤتَمَنة على أسرار روحه وأفكاره.
هل ما قدمناه يمكن أن يكون أساس عمل أم قد يؤدي إلى انفراط الأنماط اللغوية والفنية الموروثة أو المألوفة ويكون سبباً في غربة القارئ كما هي غربة الشاعر؟ هل عدنا إلى سبب الابتعاد عن قراءة الشعر إلى سواه؟ وقبل هذا هل مهمة النقاد واللغويين هي لتنظيم العلاقة بين الكاتب والمتلقي ليظل الفهم والمعايشة ممكنين؟
من مجموع ما سجلته حتى الآن، نجد انفسنا حريصين على ألا نخسر الشعر والشعر حريص على ألا يخسر حريته. نحن إذن بين مسألتين! فلنتحدث عنهما معاً وبما نستطيع من أيجاز :
ان الشاعر ما دام يكتب، سواء كتب لنفسه أو لنخبة يريدها أو لجمهور الناس العام، هو يكتب خطاباً، فليكن إذن خطاباً جديداً، ليجدد الصياغات ولتكن اشاراته أبعد مما ألفنا. لكننا من ناحية أخرى مسؤولون عن استمرار الشعر لا عن وجوده حسب وعن تطوره بوعي فني. فالتطور من دون علم وثقافة، مبعث إرباك وفوضى. كما أن عدم التطور يعني تخلف الشعر عن الحياة المتقدمة، وهذا هو ما نراه اليوم ونحاول أن نجد له تفسيراً. وكثيراً ما لا نقتنع بالأسباب المعلنة، فنبحث عن أسباب أخرى..