2-2والآن لا بدّ من تقديم أهم المشاهد الشيكسبيرية في مسرحيات هاملت ، ومكبث، والملك لير، ونقارنها بترجماتها العربية. نستهل الحديث بمسرحية مكبث لأنها قصيدة ممسرحة بالدرجة الأولى، قصيدة اوبرالية متعددة الأصوات، ولكنها متواشجة كعلاقة ا
2-2
والآن لا بدّ من تقديم أهم المشاهد الشيكسبيرية في مسرحيات هاملت ، ومكبث، والملك لير، ونقارنها بترجماتها العربية. نستهل الحديث بمسرحية مكبث لأنها قصيدة ممسرحة بالدرجة الأولى، قصيدة اوبرالية متعددة الأصوات، ولكنها متواشجة كعلاقة الدلتا بالنه، أوعلاقة الأغصان بالجذر، على هذا لا تفهم المسرحية من خلال شخصياتها ولكن من خلال ثيماتها وصورها المجازية. أكثر من ذلك ما من مسرحية شيكسبيرية أو غير ذلك تفككت فيها الحواس وتقاتلت فيما بينها كالحواس في مسرحية مكبث.
قبل أن أقدم بعض النماذج الترجمية من شيكسبير، أود أن اعترف اعترافاً شخصيا أنني منذ مدة وأنا أشعر بترفّق أو تساهل، فلن أذكر أسماء مَنْ آختلف معهم من المترجمين، في مداخلتي هذه. إليكم إذن مثليْن من مكبث.
الأول: تبدأ مسرحية مكبث أوّل ما تبدأ، بمشهد الساحرات الثلاث، وهن يتداولْنَ متى يلتقين ثانية وأين. هل سيلتقين في بداية المعركة، أمْ في وسطها، أمْ في نهايتها. تقول الساحرة الأولى:
-متى نلتقي ؟
في الرعد، أمْ في البرق، أم في المطر؟
وهنا تجيبها الساحرة الثانية:
-حين تضع الحرب اوزارها،
حين تُربح المعركة وتُخسَر.
وتقول الثالثة: سيكون ذلك قبل غروب الشمس...
هكذا رمز شيكسبيرإلى بداية المعركة بالرعد، أي الهياج وقرقعة التروس وحمحمة الخيول. ورمز إلى وسط المعركة بالبرق أي استلال السيوف ولمعانها، وما نزول المطر إلاّ سفح الدماء.
من الطريف أن يرتبط لمعان السيوف في الشعر العربي القديم، بالكواكب ونورها. يقول بشار بن برد:
كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه
ويقول العتابي (وتنسب إلى كلثوم بن عمر):
تبني سنابكها من فوق أرؤسهم
سقفاً كواكبه البيض المباتير
ويقول عنترة:
ووددت تقبيلَ السيوف لأنها
لمعتْ كبارق ثغرك المتبسمِ
قلنا إن هذه الرموز الثلاثة مواعيد منفصلة، وهي واضحة لأن شيكسبير استعمل أو :Or ، غير أن أحد المترجمين المعروفين ترجمها بالصيغة التالية:
"متى نلتقي نحن الثلاث
في رعود وبروق وأمطار كاللهاث"
هذه الترجمة معطوبة من عدة وجوه. أوّلاً وضع المترجم (و) بدلاً من (أو)، فقضى على توقيت اللقاء. ثانيا : استعمل شيكسبير أسماء الجنس أيْ: الرعد، البرق، المطر، إلا أنّ المترجم وضعها في صيغة الجمع: رعود وبروق وأمطار، ولأنها معطوفة، أصبحت وكأنّها صفات لطبيعة فالتة العقال، بينما أسماء الجنس التي استعملها شيكسبير كانت صفات رمزية لثلاث مراحل في ميدان معركة كان يخوضها مكبث.
بالمناسبة، فإنّ العدد (ثلاثة) المشؤوم يتردد بكثرة في تضاعيف المسرحية. فالساحرات ثلاث، ولـ(هيكاته) الساحرة ثلاثة أسماء، ولمكبث ثلاثة ألقاب وقيل إنّ مكبث عندما قتل الملك، إنما اقترف ثلاث جرائم مرة واحدة، اوّلاً لأنه ضيفه، وثانياً لأنّه آبن عمّه، وثالثاً لأنّه ملك.
نعود ثانية، لما قاله المترجم :"في رعود وبروق وأمطار كاللهاث" يا لله، من أين جاء المترجم باللهاث؟ وهي غير موجودة في النصّ الإنكليزي.
تلك إضافة ضررها بادٍ، لأن هذه الساحرة أرادت أن تقتص من امرأة سمينة، طلبتْ منها بعض كستناء فطردتها فما كان منها إلاّ أن أبحرت إلى حلب لتحطيم سفينة زوجها، وحتى إبحارها إعجازي، فقد ذهبت إليه في منخل. لا شك إن ساحرة قادرة على أشياء خارقة كهذه لا يمكن لها أن تلهث.
باختصار شديد، ثمة مصطلحان يردان عشرات المرات في مسرحية مكبث، هما Time و Nature ، ولهما معنى خاص في هذه المسرحية، إلا أنه فات هذا المعنى على المترجم فتضعضعت المسرحية بكاملها. فـ (Time ) لا تعني الزمان كما ظنّ المترجم، وإنما تعني : الناس أو العالم.
و (Nature) لاتعني الطبيعة ,إنما الشئ الحيّ.(1) بالمثابة نفسها، لنأخذ مصطلحاً آخر يرد مرات ومرات، وهو (Pity ). وتعني قاموسياً: شفقة، رحمة ، رثاء، أسف ...لا يمكن للمترجم أن يختار اعتباطاً من هذه المعاني معنى يناسب ذوقه. فيقول كما قال المترجم : الشفقة. هذا اجتهاد مردود، لأن شيكسبير آستعمله كمصطلح ديني في التوراة والإنجيل والقرآن. (2)
لنأخذْ مَثَليْن قصيريْن من مسرحية هاملت، عسى أن يكونا كافييْن للتدليل على الترجمة الخالية من المسؤولية.
في البداية يعتبر بعض النقاد هذه المسرحية هي عدة مسرحيات في مسرحية واحدة.، ومشاهدها متداخلة. تبدو الحياة فيها تمثيلاً بتمثيل. حتى نحن لسنا كما نحن عليه، وإنما ممثلون نؤدي أدواراً، وأمواتنا من أكثر الممثلين تأثيراً. لكن، قبل تقديم مشهد حفار القبور، وهو من أشهر المشاهد المسرحية على الإطلاق أضع بين أيديكم الترجمة العربية التالية. يقول المترجم:
"إنْ هوى الرجل العظيم حسبنا عليه
ما دنا منه حتى ذباب
والحقير إذا علا، انقلب العدوّ صديقاً
فالحبّ من خدم الزمان
...ومَنْ يختبر في الفاقة خلّاً أجوف
في الحال يجدْ فيه عدوّاً"
يقول المترجم (ما دنا منه حتى ذباب) ولكن، ليس في النص أعلاه كلمتا: (حتى) ولا (ذباب) في النص الإنكليزي. توهّم المترجم أن كلمة flies وهي لا شك تعني يهرب أو يتخلى عن.
يقول المترجم : "والحقير إذا علا" ما من إشارة لحقير هنا وإنما الإشارة إلى الفقير.
يقول المترجم : (فالحبّ من خدم الزمان) . حتى الراسخون في العلم لا علم لهم بما يعنيه المترجم. ليس هناك من زمان ولا وجود لخدم، وما معناهما. استعمل شيكسبير مصطلح:
Fortune أي : الحظّ وهو من الثيمات المهمة التي يعالجها شيكسبير في هذه المسرحية، وفي مسرحية مكبث.
يقول المترجم:"...ومنْ يختبرْ في الفاقة خلّاً أجوف/ في الحال يجدْ فيه عدوّاً". لا ريب نحتاج إلى الراسخين في العلم مرةً أخرى لفك هذه الطلاسم الملغزة. أين الخلّ الأجوف؟ هل هي ترجمة لـ hollow friend? يقول هارولد جنكينز، وهو محرر هاملت – طبعة آردن: إنّ هذا التعبير يعني عدوّ محتمل. ويذكر جون أف. أندروز أنّ معناها: رجل لا أهمية له. أمّا في قاموس ألفاظ شيكسبيرShakespeare’ s words فمعناها: فارغ، زائف، غير وفيّ.
يرد هذا التعبير في مسرحية هنري السادس – الجزء الثاني – حينما تخاطب الملكة الملك:
"المعروف عنّا أننا صديقان غير وفيّيْن".
المقطع أعلاه مرتبك وغامض، وهو غموض ناجم عن ضعف صياغة الجمل العربية.
أدناه ترجمة مقترحة للمقطع أعلاه:
"حينما يسقط الرجل العظيم يهجره محبّوه
وحينا يصعد الفقير يجعل من أعدائه اصدقاء
وإلى هذا الحدّ من السؤال هل الحبّ في خدمة الحظ
فالغني لا يعدم صديقاً أبداً،
والمحتاج يستغيث بصديق فجّ
فيتحوّل إلى عدوّ ناضج، في الحال".
وهذا نموذج آخر من هاملت أيضاً، نقتبسه من الفصل الخامس المشهد الأول.
كان هاملت وصديقه هوراشيو، يسيران في مقبرة، فإذا بهما وجهاً لوجه مع حفار قبور. كان منهمكاً في حفر قبر جديد (قبر أوفيليا) وكان يغني. يرمي الحفار جمجمة خارج القبر. يرفعها هاملت ويقول:"
كان لهذه الجمجمة لسان، وغنّى في يومٍ ما
يا لَهذا اللعين كيف يطوح بفكيها إلى الأرض"
ينتقل هاملت بعد حين ، إلى مقطع آخر يقول فيه:
"... والآن تنخر حضرة الدودة ُ الجمجمة،َ إنها
بلا فكيْن وبمسحاة كاهن تضرب بفظاظة
مرّة بعد مرة..."
إلاّ أن المترجم قال:
" وهنا الآن سيدتي المصون دودة وقد سقط شدقها
وضربتْ هامتها بمسحاة دفّان..."
توهم المترجم أن الجمجمة التي كان يتحدث عنها هاملت ليست جمجمة بشرية. وإنما جمجمة دودة
أكثر من ذلك أسماها سيدتي الدودة وأضفى عليها صفة غريبة هي :المصون. لماذا سيدتي، وكيف عرف المترجم أنها مصون! وهل
هناك دودة مصونة ودودة غير مصونة.؟ وكيف سقط شدقها؟
• ألقيت هذه المداخلة في ملتقى القاهرة الدولي للترجمة يوم 24 نوفمبر الماضي.
(1) انظر كتاب : من تقنيات التأليف والترجمة
(2) المصدر نفسه.