TOP

جريدة المدى > عام > عبدالكريم السعدون فراغ الذاكرة تاريخ منسي

عبدالكريم السعدون فراغ الذاكرة تاريخ منسي

نشر في: 20 فبراير, 2017: 12:01 ص

تجربة فنية متميزة ، مثيرة للانتباه لحظة تحقق علاقة مباشرة معها ،انها فعالية فنية غريبة في عناصرها والانشغالات الفكرية التي اعتنت بها التخطيطات، ولعل أبرز العناصر البنائية في هذه التجربة ، هي العودة لعتبات الحضارة السومرية والمصرية وكذلك توظيف بعض الر

تجربة فنية متميزة ، مثيرة للانتباه لحظة تحقق علاقة مباشرة معها ،انها فعالية فنية غريبة في عناصرها والانشغالات الفكرية التي اعتنت بها التخطيطات، ولعل أبرز العناصر البنائية في هذه التجربة ، هي العودة لعتبات الحضارة السومرية والمصرية وكذلك توظيف بعض الرموز العددية التي عرفتها سومر بطاقتها السحرية ، والعناية بما هو يومي مألوف ومعروف للإنسان الموجود في الخارج .

 هو يعيش لحظة الخوف والقلق والتشظي بين ثقافات متنوعة وهويات عديدة ، كل هذه أنتجت ضغوطاً نفسية وثقافية وضعت الكائن في حيرة وسط صراع مرير وعنيف ، له تمظهرات نستطيع المرور على بعض منها ، بوصفها تمثيلا لحياة الكائن وسط كينونة مثل المطحنة .
أعتقد ان كتاب الفنان عبدالكريم السعدون ( ترميم الذاكرة ) تجربة لها خصائص جوهرية ، متأتية من الغرابة واللامعقول واللامألوف في الآلية الفنية التي اتبعها الفنان سعدون ، انها آلية فيها ابتكار جعل من سوادات الخطوط تدويناَ انطوى على ما يشبه الاعترافات السرية والخاصة عن كائن / فرد عاش ويعيش حياة قلقة ، فيها من الاضطراب ما جعل سعدون يذهب إليها ، انها حياته هو أو الأخرى التي تعايش معها وتعرّف عليها، لذا تبدّت التخطيطات خاضعة لنسق فني وشكلي واحد ، على الرغم من انها استقرت زمناً طويلا ، مثلما كشفت عن ذلك بعض التواريخ الموزعة  على سطوح التخطيطات .
وما أريد ان أقوله عن تخطيطات السعدون يذهب للتعريف بتجربة فنية جديدة منحها الفنان عنايته العالية ، ليس بالانجاز الفني والتنفيذ ، بل في الإعلان عنها عبر مطبوع أنيق ، ذهب بعيداً نحو الذاكرة من اجل ترميمها . انه يحلم بذاكرة فردية له ولغيره ولجماعات بشرية محتشدة بتصورات – هكذا يتمنى الفنان – عن حياة هادئة وآمنة ، لكنه يفقد السيطرة على شطحات تخيلاته فتنزلق نحو عتمات ، ليس السواد هو الدال عليها ، بل الفكرة أو الظاهرة المتجسدة من خلال اللوحات التخطيطية، ولذا استطيع القول بأن هذا الكتاب غني باحتمالات القراءة وتنوعات الفحص ، لأن ثنائية الكينونة ، الماضي كتاريخ وذاكرة والحاضر كينونة أخرى ، وذاكرة ، وتداخل ثقافات ، ساعد وسيظل ممكناً في فتح نوافذ للحوار بين المتلقي وبين الفنان ، من خلال كتابه الذي سيظل قابلاً بالمجاورة معه ولتعميق فحص وإجراء حفريات لن تنتهي إلا بما هو مدهش ، وليس أكثر إدهاشاً من الجنسانية وعلاقة الأنا بالآخر التي جعل منها الآخر تمثيلا لتصوراته عن الذات الشرقية وقد انحاز الفنان أحياناً إليه وقدم تخيّلا عن الإنوثة مثلما عرفها الشرق وكيف تعامل معها ولأن هذه الثنائية ذات إشكالات ستظل حاضرة ومستمرة لأن موضوعة الجسد ، ليست آنية ، بل أزلية ، جسد الأنثى الذي وقعته حواء منذ الأزل وظلت متمركزة ، ذات تأثير وفير، لكن المهم ، هو كيف ينظر الشرقي لجسد الأنثى ، أما الآخر فقد دفع به نحو السلعنة ، وتحول الى حاجة استهلاكية وليس قيمة ثقافية ومعرفية كبرى . فالجسد حضور كلي ، له خصائص تجعل منه هكذا ، لأنه قائم بالزمان ، الماضي / الحاضر / المستقبل ، بمعنى حاز الجسد على رؤية برغسون الفنية ، لكنه لم يتخندق ضد الفلسفات الأخرى التي تعاملت معه تمجيدا وتخليداً .. انه في حسيّاته ماثل في الذاكرة ، محفز لها ، متوتر في كل لحظة ، لأنه بحاجة الى ما يساعد على التوازن عبر الاكتمال ، الذي لن يكون إلا عبر ثنائية بين الذكورة والانوثة .
ذاكرة متعبة ! تبحث عن ترميمات لها . وأدرك السعدون بأن مثل هذه الذاكرة التي ما زالت وستظل تعاني من الفراغات فيها وتلك هي التباسات ثقافية ومعرفية . وهذا هو حال الكائن الذي يعيش وسط مجتمع معولم ، سريع ، لا يوفر مجالا لأختيارات الإنسان لعلاقته مع المحيط الذي هو ، لان الزمن سريع ، متحرك يتجاوز كل ما حاول الإنسان الإمساك به . وترميمات السعدون ذكية ، متكونة في ثقافته الشرقية وأصوله السومرية والاكدية حيث الاستجابة العالية للميثولوجيا وعقائدها وما فيها من طقوس والانشغال بها بوعي متعالٍ كي يملأ ببعضها مساحات الفراغ الذي ستظل تعاني منه الذاكرة ، التابعة لتاريخ طويل وعميق ، كما قال بور ريكور.
رغبة الفنان عبدالكريم السعدون متجهة نحو ذاكرة فرد وجماعات وهنا تبرز جوهرية دعوته ، التي تتبدّى عن حكم فرد وجماعات ، حكم إعادة تدوينات سابقة ، تقود الحاضر باتجاه مرحلة ، عناصرها الجمالية أكثر بروزاً وتمركزاً . وحلم السعدون معلن عن آدميته ومشاعره وادراكاته وعلاقته بالجمال النسبي الذي دنا كثيرا من التشارك الثنائي بين الذكورة والانوثة عبر الثبات الإنساني للمشاعر والذهاب باتجاه التواصل الأعمق بين الطرفين . وما شفت عنه تخطيطات الفنان هو عرض الجسد الأنثوي وكأنه قادر على التشارك بترميم الذاكرة وهذا ما ذهب اليه الفنان تمثيلا لرغبة الإنسان الشرقي وحلم الاستهلاك الرغبوي .
لم تعد- كما هو واضح في التخطيطات – انكسارات الإنسان الثقافية ذات قيمة إنسانية في زمن العولمة ، لأن المستهدف وما تريد تدميره ، هو الجسد والشطب على الذات ، لأن المهم هو أكبر منه والقيم الجوهرية ما عادت ذات حضور جوهري ، وعبّر الفنان السعدون بنجاح مميز بوضع الرأس المقطوع فوق الكرسي ، بديلاً عن الجسد وحيويته ، غاب الجسد بحسياته واستراح الرأس بمكانه.
ولأن الغرائبية موجودة ، واللامعروف دوره واضح . تسللت الأسطورة الى كتاب ( ترميم الذاكرة ) وتداخلت الأفكار بعضها مع البعض الآخر ، مقيدة عن حركتها بالظواهر . وكلاهما مترابطان معاً ، الأفكار والظواهر ، وما فعله الفنان السعدون وبهدوء قادتنا وبقبول منا للتورط مع إشكالات الكائن لديه ، وأسئلة الوجود التي لم تكف عن الاتهام ووضع الإنسان وسط سورة سريعة ، أفقدته مرحلة الاستراحة والتأمل، علّه يجد جواباً شافياً للمحنة التي عزلت الكائن عن محيطه وتحولت العلاقة بينهما الى نوع من اللامبالاة وتولدت له اهتمامات قادت الى الرضا بقيود المكان ، لذا كان القفص وما يوحي إليه ملاحقا للفرد الذي منحه سقراط قداسة وجعله كيرغارد المنتصر في نهاية الشوط .. كان الفرد هو الحضور الحاضر كما قال هيغل . واستمر في أشواطه المثيرة للقلق والتوتر وهو وسط اعتبارات مستمرة ودائمة ، كما قدمه لنا السعدون . ( ترميم الذاكرة ) محاولة ابتدأت واستمرت متحركة مثل عجلة ، خضعت للتاريخ وسجلت وقائع السرديات / الاستثناءات التي ذهب إليها الفنان ودفع بها لتكوّن نوعاً من الحوار بين العالم والكائن ، بين الحياة البعيدة والأخرى المجاورة له وكأن - الفنان – متورط أيضاً برسالة يجب إرسالها للآدمي المتابع والمراقب ويجعله شاهداً على ، أسطوريات وغرائبيات  ما عادت سهلة ، وبسيطة ، بل ازدادت تعقيداً وخسر فيها الإنسان أثمن ما لديه ، ولم يعد فاعلا مثلما أراده سقراط وما ألح عليه أفلاطون ، بالنسبة للإنسان وضرورات التمتع بما توفره إمكاناته من نتائج التشارك مع الآخر .
تمكن الفنان عبد الكريم السعدون من بث شفراته عبر تخطيطاته ليقول لنا عن الحقيقة التي تعرّف عليها وبعث بها إلينا ، لندخل طرفاً ضرورياً ، قادراً على النجاح باستقطاب الجماعات الآدمية ، لتدخل معنا بالاختبار ، كل ذاك من اجل الحقيقة والأفكار التي أنتجت ظواهر اختصرها السعدون وصدمنا بها من أجل التشارك معه ، والقبول بالتورط على أمل التحقق من وجود الحلم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

رولز رويس أم تِسْلا؟

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram