هذه مسألة عديدة التشعب، هي ما عادت أدبية حسب، فأنا لا أعني كيف نعيهم في الكتابة، وكيف يفهمون ما نكتب، المسألة جذرياً أبعد من ذلك. فنحن جميعاً فاقدو الحرية أصلاً، سواء في الكتابة أو في التلقي. نحن صودرنا مسبقاً بتفكير خارجي فرض نفسه علينا، ورث
هذه مسألة عديدة التشعب، هي ما عادت أدبية حسب، فأنا لا أعني كيف نعيهم في الكتابة، وكيف يفهمون ما نكتب، المسألة جذرياً أبعد من ذلك. فنحن جميعاً فاقدو الحرية أصلاً، سواء في الكتابة أو في التلقي. نحن صودرنا مسبقاً بتفكير خارجي فرض نفسه علينا، ورثناه. مصادر فكرية أو ثقافية عامة رسمت شخصياتنا وتفكيرنا. لنا هامش التمرد. لسنا الوحيدين في ذلك، حتى أعتى السلاطين أو الدكتاتوريين، تشربوا أفكار بعض "المؤلفين" من السنوات الماضية. فهم يفهمون التاريخ والحياة بتفكير أولئك وبمنظورهم. نحن وارثو ثقافة عاملون بها. تلك "المؤلفات" أو الأفكار، تحركهم وتحركنا. نحن جميعاً تحت سلطان الصدفة. من كان من المؤلفين، من النظريين، من .... وراء هذا الكاتب أو ذاك. تركيبة من "الحقائق"، من الرؤى والأفكار، صنعت أنفسنا، من ثم نحن نصنَّع مَن نرصده، مَن نقرؤه ومَن يقرؤنا مَن نعايشه ومَن يعايشنا ومَن نتسمع إليه أو يستمع إلينا.
لذلك،لا أرى أن الاختلافات، من ثم الخصومات، ستنتهي يوماً. لأننا، أفراداً، نفكر ونعمل لكل منا موروثه الثقافي أو مصادفاته من نظريات وأفكار وتجارب. تجاربنا وحدها لا تعمل من غير محيط بها. ولأنها ليست آخر أو كل الأفكار، فلن نستقر عند مفهومهات نهائية. للسِوى أفكار ونظريات من مصادر أخرى. الأرجحية أو الانكسار، يُحْدثان مروقاً ويُحدِثان حَرَجاً وربما إرباكاً في موضع من المنظورات العامة، من المشتركات العامة التي ألفناها بحكم رتابة العيش والعمل. لكن كلما تعددت هذه المحصلات الشخصية وكثرت، وإن خالفتنا، هي في صالح الحقيقة او الفهم، ما دامت تترك خلاصات سيُبنى عليها. نحن لا نعيش واقعاً واحداً، لكل واقعه، الواقع الذي يراه هو أو الذي صنعه هو بثقافته وخبراته. والمشتركات والمتشابهات من هذه كلها..
ولذلك أرى خطأً الاعتماد على ما جاء به العالم "الطبيعي" من افتراضاته أو فهمه للحال الاجتماعي . الاعتماد السليم والصحيح على النظرية الاجتماعية، السوسيولوجية، أو بدائلها من النظريات، التي تتصل بها. فنحن أساساً نهتم بالطبيعة الإنسانية لا الطبيعة الحيوانية. ولا النباتية. الطبيعة الحيوانية بلا مدخرات. لا أدري شخصياً إن كان بالإمكان تطوير قوانين سوسيولوجية بأنماط علمية. هذا المطلب تعترضه التحولات المستمرة لحياة الفرد وللحراك الحيوي للمجتمع. كما أن الطبيعة المرئية مضلّله للاستدلال، مضلّلة للافتراض، مضللة حتى للرصد العياني ولكلا الطرفين، الرائي والمرئي، للكاتب ومن يكتب له، للدارس ولمن ندرسه ... الظواهر البشرية ليست ثابتة، هي ليست واقعية جامدة كما نفترض نحن. يمكن أن تكون محصلة ما نقوم بعمله وباستنتاجه بشكل مستمر، فهي نوع من التدريب على الوصول أو للتآلف مع ما هو "واقع" مفترض.
السلوك الإنساني غير محدد بأنماط أو بصيغ وقوانين متداولة دائماً، وإن كنا نعرف أن الناس تحركهم في الحياة الحاجة والمنافع وفي الأدب الحاجة والمصائر. هذان لا يكفيان. ليسا قاعدة معتمدة للاستنتاج أو لوضع حلول. ثمة حاجات ضمنية متفاوتة وغير مشتركة وهذه دوافع قوية فاعلة قد تطغى على الاحتياجات الإنسانية المشتركة. وحتى على المستقرات العامة. لهذه "الغائبة" دور في التضليل. المفاجآت السلوكية، الأفكار الجديدة من هذا القبيل. هي خروجات عن القواعد أو الأنماط المألوفة. المألوفة غير مستقرة! إذن تبنّي المشتركات ليس حلاً دائماً، مشتركات هذه الفئة، أو هذا المستوى الاقتصادي أو تلك الفئة الثقافية مشتركات قلقة، والمشتركات العامة أكثر قلقاً. الأدب في رأيي يعيش على هذه التفاوتات . ومن هذه شخصيات الروايات ونقاط او موضوعات الاحتدام في القصائد. ومنها أيضاً حماسات المتلقين وإن كانوا من فئة واحدة.
هذه المربكات، هذه التغايرات في الأفعال وردودها اختلافات الرؤى، وطرائق العمل واختلاف المورّثات، بتعبير البيولجويين، ليست شروراً. هي أسس فاعلية الادب والنشاط الاجتماعي وهي، وهذا هو المهم، وراء الإبداع الفكري والفني..
فهل نسعى في التفكير والدرس لتنمية وتبني الاختراقات باعتبارها بدء ظواهر جديدة أم نهتم بتغليب وتطبيق المشترك العام بانتظار أن يتمكن لاحقاً من جعل الجميع ضمن ظرف واحد؟ الماركسية افترضت هذا واعتمدته، بل وسعته حتى انتظرت منه زوال الطبقات. لكن اتجاهات أخرى حاضرة أيضاً وبقوة منافسة. امتياز الافتراض الأول أنه افتراض عقلاني يعتمد على الاستنتاج . هو "حدس علمي" إذا صح التعبير. فهنا الظواهر الاجتماعية كلها، بما فيها الأدبية والفنيّة، لها معايير معتمدة، لها قياسات، لها بنود علمية، أسباب ونتائج .. لم يحصل هذا في الفلسفات من قبل. والخلاف مع هذا الطرح سببه عدم الثقة بالوضعي، الكميّ والمحسوس المادي. ما يزال الاختراق، خطأً أو إبداعاً، لم يجد حلاً نهائياً. هنا التنبؤ ينطلق من افتراض فكري وأمثلة واقعية سائدة. لكن الاعتراض الأساس هو على ثبات الظاهرة أو الواقع! ونحن في الأدب "الإبداعي" نعتمد على الاختراق، لا على القانون السائد. ثمة متطلب آخر للأدب غير ذلك الذي للفلسفة الإصلاحية.
كان الشاعر و.هـ. أودن، وهو الماركسي في الثلاثينيات، يقرا روايات بوليسية. تحفزه الاختراقات! هو يبحث عنها.
في حياتنا المعاصرة نواجه اشتباكات مزدوجة، وتتضاعف. لا ندري هل ستؤدي إلى حصانة الفردي وامتيازه أم الى إلغائهما، إلى نسيان فرديته وحضور، أو تأكيد، الآلي فيه؟ وهل سيكون هذا الإلغاء، أو المحو، ذا صلة بالتراجيدي ام سيكون ذا صلة بالعدالة الإنسانية؟
هكذا تكون الاجتهادات الثقافية، البعيدة عن الواقع الإنساني العملي، في جانب منها، محاكات فكرية، أو في الأقل، مدعاة لتساؤلات جديدة. فهل قراءة الأدب، الروايات والملاحم، هي قراءة علاقات اجتماعية واهتمامات نفعية، أم أننا نجد متعة فنية نفتقدها في مكان آخر؟ هل الأدب يدني منا حياة أسمى ومذاقات روحية تروى عطشنا الغامض اللا إسم له؟ وفي الدراسات الفكرية، هل نحن حقاً وبكليتنا نبحث عن حل لمتاعب الإنسان الاجتماعية؟ وهل حقاً مرغوب في العدالة الاجتماعية قانوناً عاماً؟ وهل ثمة رغبة حقيقية مقبولة عقلياً ونفعياً، فردياً أو طائفياً، في أمحاء الطبقات أم نحن نجد الحياة أكثر "حياةً" حين تولَّد الطبقة، في نموها، طبقات ضمن الطبقة الواحدة؟ وأن معنى الحياة ومذاقاتها واستمراريتها الدينامية في هذا الحراك، لكن الطبقة من الدينامية في هذا الحراك؟ لكن الطبقة في الفكر الماركسي لها علاقة مباشرة بالملكية. أنت تمتلك يعني أنت مالك وأنا مملوك! لا طريق لي، كوني عاملاً، للوصول إلى مصادر الإنتاج.
كيف هي أحوال الأدب في هذه المُفْترضات أو المتغيرات. وما نوع الكتابة وكيف تتكون الرؤى، ومن أين تجيء الامتيازات للكاتب؟ هل الكاتب من تلك الطبقة لا يكتشف ولا يبدع ولا ينفذ وبلا نسغ إنساني حميم مع مضمر الطبقات الأخرى؟
هذا افتراض ظالم. وهل الكاتب الآخر من طبقة دنيا لا يلامس الحميمية الإنسانية، بالعمق نفسه، مضمرَ الناس البعيدين عنه اقتصادياً أو مادياً؟، ربما لا مسهما أبعد من المتوقع! أي أن الكاتب من هنا وهناك، كلاهما يتحدثان عن الإنسانية، وكل يمس لواعج واحتياجات من هذه الإنسانية الواسعة في الأرض!
الثقافة اليوم تعمل على إيجاد ظواهر مشتركة وحلولاً مشتركة وأهدافاً تتقصدها مشتركة. لكنها بقيت واضحة العجز عن الوصول إلى صيغ مقنعة. حتى مدرسة فرانكفورت التي اعتمدت الحس الاقتصادي أيضاً، وحتى ماركوز الذي وضع آماله على تقدم التقنية والتكنولوجية لإيجاد نسق كلي من السيطرة والتنسيق يتغلب على كل الاحتجاجات، لم يكن، وهو الماركسي، مقتنعاً بهذا التصور. لكنها اللغة تعيد كتابة الأفكار بطرائق أخرى التشبثات العديدة لم تنفذ إلى "صفاء" انتمائية الكاتب. هي ظلت تشبثات لايجاد بديل عن المقولات الماركسية الصارمة والحدية. و الكتابات، كل الكتابات، حتى ما يسمى الملتزمة بهذه الرؤية أو تلك، ظلت غَرَفات من الحياة المتشابكة معانيها وطبقاتها. نحن أيضاً يفرحنا طرح جديد شرط الا نخلط بين الاحتياجات الشخصية، الأمزجة ضمناً، التي يمكن حسمها بأنظمة وقوانين، وبين الاشكالات الطبقية وعواقب الاستغلال. نريد فهماً، فكراً واضحاً وليس التلاعب بالعالم وإدامة السلطة وعرقلة الحسم.
لا نستطيع فرض نتاجات أدبية أو فنية "صحيحة النسب" في حياة تتحرك كلاً، بمختلفاتها. واضح لنا، كتاباً أو قراءً، أن أفضل الكتابات المهمة، هي التي تتحدث عن اختلاط نفوس وأفكار وقناعات .. وانتماءات! لكن ما هو واضح أيضاً أن نسبة كبيرة من الأدب المُنتَج اليوم تتحدث عن معاناة مِنْ أو خلاص من، تسلط. الحاجات بأنواعها المادية والروحية. هذا هو المشترك الإنساني وهنا تتضح إنسانية الأدب والكتابة بأفضل وأوسع أشكالها!
آخر الاتجاهات، هي النظرية السوسيولوجية التي سبقت الإشارة لها. هذه النظرية تستعير وتتبنى في عملها الأفكار المختلفة وتفيد من كل المجالات المعرفية لتقدم منظوراً جديداً للخبرة الإنسانية وحركة الإنسان إلى المستقبل. هذه النظرية هي اليوم موضع آمال الناس، لأنها تحترم كل منجزاتهم ولا تبعد معرفة أو تستهي بفكر، هي تضع كل الأفكار والمعارف لفهم الظاهرة واستقراء ما قد يستجد من ظواهر.
هذه مرحلة من التفكير الإنساني تتسم بالحكمة إذا ما تولاها عقل راجح يهتم بالحقيقة والإنسان ولا يختار ما يريد الإفادة منه ويلغي ما لا يريده. هي اليوم تلتقي بطروحات بعد الحداثيين في قناعتهم، أو أملهم، بإمكان حضور عمل فني يروق بطريقة ما إلى البشرية جمعاء. هذا يعني خلوه من الملابسات السياسية الباعثة على الانقسام.