يَستمد دأب جمعيّة الفنّانين التشكيليين العراقيين قوى تثميناته الحاضرة عبر حواضن ديمومة معارضها السّنويّة- بهذا التباهي والوثوق- من خلال قوة ذلك الجذر الذي تستقي من روافده طاقات ومهارات الأجيال اللاحقة ممّن تغذّت من مذاق عمق وصدق تجا
يَستمد دأب جمعيّة الفنّانين التشكيليين العراقيين قوى تثميناته الحاضرة عبر حواضن ديمومة معارضها السّنويّة- بهذا التباهي والوثوق- من خلال قوة ذلك الجذر الذي تستقي من روافده طاقات ومهارات الأجيال اللاحقة ممّن تغذّت من مذاق عمق وصدق تجارب سابقة لها أثرها وتأثرها الروحي والفني، ثم انتشت من عبق روائح ما تضوّع من منجزات الرّواد ومن تلاهم عبر سلسلة- أشبه بالمتوارثة- من رهط الفنّانين المُتضامنين مع ذواتهم والمُثمرين من تطلعات آفاقهم نحو مسارب الحياة ومتغيراتها المستمرة، وفق مفاد حقيقة تفضي بأن؛(ليس ثمة ارتفاع بلا عمق).تهامست بمشاعر صمتٍ وثيق الصلة بالفكر ومحافل الجمال، وبهيبة حضور العديد من التجارب الحيّة الكثير من لوامع الفن التشكيلي العراقي عبر ثوالث التعبير بالرسم والنّحت والخزف في محراب المعرض السنوي المقام أواخر شباط هذا العام/2017 بخبرة فحص وتقييم لتنظيم نوعيّ توغلّت أنساغها لتمتّد نحو العام/ 1956 حيث تأسيس صرح هذه الجمعية التي رعت وغربلت غث قيم ومحددات الفن الحقيقي عن سمينها وفق معايير وشروط مهّدت لهذا الإجراء التتابعي، مع ضرورات الأخذ بمرآى الاعتبار عن عدم مشاركة تجارب مهمة وعميقة ولها حيّزها الإبداعي والتحديثي، ولكن لم يشأ لها ذلك لأسباب ودواعٍ ومبررات تتنادى من كلا الطرفين الفنّان نفسه، والجمعية ومعاييرها الشاخصة والمعرفة ومُحددات- إن لم تكن معيقات- طاقتها (اللوجستية) في تبني استقبال كافة مُكملات المنتج البصري التشكيلي-العراقي المُتناثر والمبثوث في مختلف بقاع العام.
خمسة وسبعون رسّاماً أبتدأت خطواتهم الواثقة بمشاركة حانية ونضرة تماثلت بشخص الفنّان الرائد بجدارة وعي وخصوصية تجربة (د. نوري مصطفى بهجت) الذي رعى حفل الافتتاح وقص شريط هذا المعرض بمعية المربي والفنّان والإكاديمي الكبير (سعد الطائي) ليشكلا دبق نسغ ذلك الجذر وصولاً لمتواليات أجيال وأجيال أضحت تتماهى وتتناسل وتنمو في رحم التشكيل الذي يُعد المثابة الكبرى والمصد الأصلد في معمار الثقافة العراقيّة جنباً لجنبٍ مع الشَعر والمسرح وبواقي قامات الأدب من رواية وقصة وتعشيقات الفنون البصرية والسمعيّة وما يحاذيها من أنشطة وتوريدات إبداعية أخرى.
لقد تلامحت وتلامعت أسماء من أجيال مُغامرة ومُبحرة في لُجّج التجريب والتحديث في مِلاكات هذا العرض المتنامي ما بين تيارات الحداثة ومُشخصات الواقع وتماثلات الطبيعة ومجاورات التخلّص من تبعات نتاجات الماضي وبراعة التأشير نحو إغراءات ما يضمر المستقبل، وفق ما شهدت القاعة الكبرى في مبنى الجمعيّة في منطقة المنصور ببغداد، في الخامس من شباط الماضي، حين أُضيئت قائمة المعرض بأسماء من أمثال (رافع جاسم/ سالم الدباغ/ ستار لقمان) بعد تواشج منجزات أخرى متفاعلة ونهج الحداثة من طراز ممن وردت أسماؤهم ولم نرَ أعمالهم -مثلاً- (غالب المنصوري) فيما تنامى حضور التماع أعمال الفنانين (فاخر محمد/ عاصم عبد الأمير/حسام عبدالمحسن/حمد شاوي/ قاسم سبتي/ ضياء الخزاعي/ بلاسم محمد/ محمد الكناني) وتواليات منجزات (مؤيد محسن/ شوقي الموسوي/ عشتار جميل حمودي/ نادية فليّح/ سهى الجميلي/ يسرى العبادي/ حسن أبراهيم/ محمود شبّر/ ومحمد مسير) والقائمة عامرة بغيرهم من الرسامين، في وقت جرى في عرض سبعة وأربعين عملاً نحتيّاً برزت منهم أسماء (باسم التكريتي/ منذر علي/ علوان العلوان/ طه وهيب/ نجم القيسي/ رضا فرحان/ وليد البدري/عاتكة الخزرجي/ نمير الكناني/ سميرة حبيب/عقيل خريف/ وصالح الكناني)، وفي مجال (السيراميك) برزت أعمال الخزّافين (ماهر السامرائي/ أكرم ناجي/ قاسم حمزة/ تراث أمين عبّاس/ رجاء بهاء الدين) من بين أثنين وعشرين فنّاناً آخر كانوا قد شاركوا بهاء عرض متنوّع من حيث الدلالة وجديّة المسعى والموضوع، ومن حيث وفرة المعنى وسوانح اختزالاتها وشواخص مضامينها الحُرّة والموثقة بنياّت و مُنبئات عدة أساليب ونزعة اتجاهات وتنويعات مدارس.
وليشكل هذا الحدث الإبداعي العام - بعد ذلك- خُلاصة فهم خاص لطبيعة ثراء المشهد التشكيلي الذي يُبرهن على منحى انفتاحٍ حُرٍ ومختلف من حيث واقع مُدّخرات الوعي الجمعي واللاشعوري الكامن في قاع دواخل الفنّان وتوجهاته ولوازم ما تتصّف به استشعارات من لم يزل منهم مًقيماً في الداخل، وبما قد يضاهي بعض ما يُنتج من لدن الذين يعيشون في الخارج تحت وطأة الاحساس الغارق بالغربة ونوازع الحنين و(النوستالوجيا)، وما يتوقع أن يعاكس حقيقة ما يجري في العراق من اكتظاظ ظنون وتوّجسات مخاوف مُحدقة، مُعاشة وبشكل يومي حقيقي ومباشر يشعر بها الأول ويحيا بها، ويتحسس بعض لوامسها ومجساتها الثاني، وما بينهما وحدة هموم وتشابة أحلام في السعي لإعادة الروح للحياة بخوالص التمّني وإشراقات نور الأمل، ومتتمّات خواطر الصبر ودفاعاته الضمنية ما بين تشاخص فعل تشاؤم العقل، والتلميح بتفاؤل الإرادة بحسب مفهوم (غرامش) فيما يتعلّق ويخص موضوعة المثقف العضوي أو المجتمعي، حيال مجريات ما يقع ويحدث أمامه، وما يحيا فيه.يلُح علينا أن نتباصر وروح مجسات ذلك الأمل البارق والمرجو في ثنايا ومسامات أغلب مجموعة أعمال ومحتويات هذا المعرض النوعيّ من حيث نقاوة الانتقاء وثراء التنوّع- بحكم ما متوفر ومسموح به عُدة ًومن حيث عدد المشاركين- من خلال مهارة الدفع بتفويض الرمز وكثافة الاحتماء بالتجريب وخواص التعامل والتخاطب مع الآخر عبر محصلات جماليّة منبثقة من روحية وطبيعة الأحداث والوقاىع التي يشهدها واقع الحياة في العراق، بعيداً- تماماً- عن أي معبرٍ لنسق ٍ مباشر ولحوح في طرح الأفكار والمواقف بطريقة (بوستريّة) أو شِعاريّة تلوّح بمدلول الشجب والتمرّد الساخط تحت تأثير انفعالٍ سطحي ومؤقت ولا يلامس أثراً ويتوغل تأثيراً في نفوس من يعنيهم الأمر، بل يجب السماح بتمرير نوازع لعوامل حضاريّة وجماليّة تسمو برفع منزلة هدفها نحو مقامٍ عالٍ يليق ويرتقي للمساس بجوهر الحقيقة التي يتعرّض له بلد مثل العراق المُرهون والمُوّثق بنبل وخصوصية تفرّد توالي حضاراته الأولى وإبجديات تتابعاتها الفكريّة والنفسيّة والإنسانيّة في تأريخ وضمير العالم الذي يشاهد ويتابع ما يجري بدماء باردة، لا توازِ حجم ما تنوء به الكارثة التي تواجهنا.