صدرت المجموعةالشعرية الخامسة التي تحمل عنوان ”لا أحد يعود” للشاعر فاضل السلطاني المُقيم بلندن حالياً، وهي امتداد لتجربته الشعرية السابقة في”ألوان السيدة المتغيّرة”التي تحتفي بأشكالها المُختلفة، ومعانيها المُغايرة عن السائد وال
صدرت المجموعةالشعرية الخامسة التي تحمل عنوان ”لا أحد يعود” للشاعر فاضل السلطاني المُقيم بلندن حالياً، وهي امتداد لتجربته الشعرية السابقة في”ألوان السيدة المتغيّرة”التي تحتفي بأشكالها المُختلفة، ومعانيها المُغايرة عن السائد والمكرور من التجارب الشعرية لمجايليه في أقل تقدير.
يشعر المتلقّي الذي يقرأ قصائد السلطاني لأول وهلة، بأنه يقف أمام معالجات جديدة لثيمات مألوفة مثل الوحدة، والفراغ، والغربة لكنه يُشيّد منها عالمَه الشعريّ الخاص الذي ينتمي إليه، ولا يُحيل إلى تجارب سابقة عراقية أو عربية على وجه التحديد.
درسَ السلطاني اللغة الإنكَليزية وآدابها في العراق وأحبَّ الشعر الإنكَليزي على وجه التحديد بمبانيه ومعانيه المختلفة عن الشعر العربي، ثم واصل دراسته العليا بلندن لنيل درجة الماجستير عن شاعرهِ المفضّل فيليب لاركن”اللامنتمي”الذي تماهى معه في بعض أجوائه ومُقارباته الشعرية التي تتمحور على ثيمات كثيرة من بينها القلق والعزلة والاغتراب، ثم تعمّق شيئاً فشيئاً في الأدب الإنكَليزي ليجترح لاحقاً بصْمته الشعرية الخاصة التي تُشير بوضوح إلى فرادته في لغته المشذّبة، وصوره الشعرية، وموضوعاته الأثيرة، إضافة إلى معالجته الفنيّة التي يمكن تلمّسها في كل قصيدة على انفراد.
تبدو لغة السلطاني في غالبية قصائده، إن لم أقل كلها، رشيقة، مُتقشِّقة لكنها تفي بالغرض الذي تسعى إليه سواء في رسم الصورة الشعرية أو في الحفاظ على الهيكل المعماري المتماسك للقصيدة برمتها. فنصُّهُ الشعري لا يميل إلى الترهّل، ولا يحتفي بالتزويق اللفظي، ولا يقيمُ وزناً للمُحسِّنات البديعيّة من طِباقٍ وجِناسٍ ومقابلةٍ وسجع.
لا تنبثق الصور الشعرية في قصيدة السلطاني من فراغ، وإنما تنبع من الحاجة الماسّة لتعزيز البِنية الداخلية للنص الشعري كوحدة متماسكة لا تُثقِلها الزوائد والاستطالات التي تُرهِق كاهل النص وتُحمِّله أكثر مما يَحْتمل. فقصيدة”نضوج”تمثيلاً لا حصراً، تتألف من ثلاثين كلمة مع حروف الجرّ وأدوات التشبيه لكنها تلمُّ بالثيمة وتُحيط بها من مختلف الجوانب، حتى ليشعر القارئ أنه أمام صورٍ مُستقطَرة من عسل الكلام.
أما موضوعاته الرئيسة في شعره، فهي عميقة مُهجّنة مثل لغته وصوره الشعرية لكنها تتسم بجديّة مُفرطة لم يتسلل إليها المرحُ، والدُعابة، وطُرَف الكلام إلاّ ما ندر ولعله استلهمَ هذه الرزانة المُحْكَمة من حياته الشخصية التي اقترنت بالقراءة العميقة المكثّفة، والسعيّ المتواصل لتحقيق الأحلام الأدبية والفكرية والحياتية التي تغرّبَ من أجلها في الشام والجزائر وباريس قبل أن يستقر به المقام في عاصمة الضباب التي تتداخل زمكانياً ببغداد بطريقة فانتازمغورية، كما يتداخل نهر بابل بالتيمز لأنّ راوي القصيدة ومُبدِعها يعيش هنا وهناك في آنٍ معاً.
إنّ ما يميِّز قصائد السلطاني أيضاً، هو البناء المعماري المتفرِّد الذي يُشعِر القارئ بالنموّ العضوي للقصيدة، فلا أثرَ للإطناب، أو الشطط، ولا وجود للحشو أو التأثيث لأنه يبني نصّه الشعري من مواد أساسية قليلة لكنه يضع كل آجرّة في المكان الصحيح ويصل في خاتمة المطاف، إلى إنجاز تحفة بَصَرية مُبهرة وقادرة على الصمود والتوهج أمام تقادم الأعوام.
أشرنا في مقالٍ سابق إلى التعالقات النصيّة التي تزدان بها قصائد السلطاني السابقة، حيث يقتبس بيتاً مهماً أو صورة شعرية جّذابة، ويبني عليها جانباً من النص الشعري، وغالباً ما يتصرّف الشاعر بالاقتباس مُروِّضاً إياه، بطريقة حاذقة تُغذّي قصيدته وتتفاعل مع ثيمتها الشعرية المهيمنة. ويمكن إحالة القارئ الكريم إلى عدد من هذه التعالقات النصية مع شعراء عرب أو أجانب من بينهم الشاعر الأموي الصُمّة القُشيري، الجواهري، وابن عربي، ومن الأجانب بول سيلان، جاك بريفير، بودلير، غوته وإدغار ألِن بو، كما أهدى بعض قصائده إلى ابن الرومي وترانسترومر وقسطنطين كفافي وإليوت، وثمّة شعراء إنكَليز يمحضهم حُبّاً من نوع خاص أمثال وليم بتلر ييتس، ر. س. توماس، أندرو مارفيل، جون كيتس، فيليب لاركِن وغيرهم من الشعراء البريطانيين، الذين تناصصَ معهم أو استلهم من بعض مقتبساتهم، الومضة السحريّة التي تظل تتأجج في بعض نصوصه الشعرية التي لا تجد ضيراً في التلاقح مع شعراء آخرين من مختلف أرجاء المعمورة.
لا تخلو أية قصيدة من قصائد هذه المجموعة من معالجة فنية تعكس في حقيقة الأمر خِبرة الشاعر فاضل السلطاني وتمرّسهِ في كتابة النص الشعري المُكثّف شكلاً ومضموناً، وقد يلجأ أحياناً إلى مزج الحقيقة بالوهم في لعبة فنية شديدة الذكاء، فحينما وقفَ على نهر بابل رأى كل شيء تقريباً العُشبَ، والطيرَ، والنباتَ الذي ينام على الضفتين، والسمكَ الذي يتطاول للجسر، والمراكبَ، والصيادينَ المبتهجين لكنه لم يرَ الماء مع أنه وقفَ على الضفتين! هذه القصيدة الماكرة تحتاج إلى أكثر من قرءة ليس لصعوبتها وإنما لإعادة رسم المشاهد المتسلسلة من جديد لفصل الحقائق الدامغة عن الأوهام الخادعة التي تراوغ القارئ وتستدرجه إلى الحيِّز الغامض الذي تتشكّل فيه القصيدة في غفلة من الوعي لتحلّق في فضائها الفنتازي الذي يتوفّر على نوعٍ من الصدق الفني الذي نرتكن إليه على الرغم من غرائبية الصور، وسيريالية الأحداث.
في قصيدة”رصيف محطة القطار 7”عالجَ السلطاني ثيمات الغربة والوحدة والضياع من خلال عيني حمامة لا غير، عرفتْ أنه الغريب الوحيد على هذا الرصيف، وبما أنها تمتلك كل الفضاء فسوف تذهب لبرجٍ قريب أو بعيد، لكن أين سيمضي هذا الكائن الغريب، حتى لو بلغ أقصى الشمال أو أقصى الجنوب؟ فيأتي الجواب بصيغة استفهامية مُفجعة:”أيَّ بيت سأدخلهُ... أيَّ قبر؟(ص 12)
وفي قصيدة”فراغ”التي أهداها لابن الرومي وترانسترومر لسبب ما يحاصره الفراغ من كل الجهات بعد أن تبددت كتل الجماهير وبدأ يسمع صراخ الفراغ بشكل مهول فيخاطب الله جلّ في علاه ملتمساً:"أُصلي إليك / خُذ إليكَ / بعضَ هذا الفراغ.. / لأسمع بعضَ صوت / وليكن../ صوتَ وحش"(ص17)
يُشكِّل الموت هاجساً كبيراً في شِعر السلطاني، ولكنه يأخذ أشكالاً مُفجعة يمكن تتبّعها في موتى المعارك، أو الموتى المعلّقين على الجدار، أو في موت الشقيقة الراحلة”سهام”أو في موت”لينور"، ولعل هذه القصيدة الأخيرة وسواها من القصائد المُستَلهَمة تحتاج إلى إحالات ومراجع ثقافية كي يستوعبها قارئ الشعر المُحترِف الذي يكتب له السلطاني ويتوجّه إليه خصيصاً. فلا يمكن الإحاطة بقصيدة”لينور”والإلمام بها ما لم يتعرّف القارئ على قصيدة”الغُراب”الشهيرة لأدغار ألِن بو بوصفها المُلهمِة للنص الذي أبدعه شاعرنا الجادّ والمهموم بأسئلة الحياة والموت، والوجود والعدم وسواهما من الثنائيات الإشكالية التي يُلبِسها لبوساً أدبيّاً تُرّصعِهُ الالتماعات الفلسفية، وتطرِّزهُ الإشراقات الفكرية التي تجد طريقها إلى نصوصه بليونة واسترسال.
ثمّة صور شعرية مُذهِلة لا تفارق مخيّلة القارئ، إذا ما مرّ عليها مثل صورة عازفة البيانو في فندق مونتاغيو، الوحيدة مثل وحدة الراوي، ووحدة الليل، ووحدة الموسيقى التي تعزفها ذلك لأن النزلاء غادروا القاعة لممارسة الحُب. ولو وضعنا ثيمة الوحدة جانباً، فلا يمكننا أن نغفل أبداً الصورة السريالية المتداخلة للأصابع الطويلة العازفة وهي تتمدّد فوق الجدران أو تضرب على الشوارع الإسفلتية وكأنها مفاتيح بيانو!
لا يمكن لشاعر عربي أن يكتب هذا النمط من القصائد العميقة والمُهجّنة ما لم يُتقن اللغة الإنكَليزية أو لغة حيّة أخرى غير لغته الأم، ويتعمّق في آدابها لينهلَ منها ما يشاء كما فعلَ السلطاني في مجموعته الشعرية الأخيرة”لا أحد يعود”التي أعدّها شخصياً، انعطافة جوهرية في كتابة النص الشعري المُختلف الذي لا يُغادر ذاكرة المتلقي بسهولة.
جميع التعليقات 1
حسين عنون السلطاني
مبدع دائما استاذ أفضل السلطاني