TOP

جريدة المدى > عام > إبن الموصل الهارب من قسوة الحاضر إلى التاريخ

إبن الموصل الهارب من قسوة الحاضر إلى التاريخ

نشر في: 28 مارس, 2017: 12:01 ص

كعربة مخضبة بالذهب عصفت بأجزائها تراكمات الأيام.. خالصة تجرها سنوات جامحة رغم عطائها.. وأقدار عبثاً حاولت حرفها عن مسارها دون جدوى.. وذلك الإرث الحزين.. وأعراس الدم اليومية.. ما يزال ذلك القلب الطيب ينبض بالحب وبالحياة .. يقلب أوراقاً قديمة.. يفتح صف

كعربة مخضبة بالذهب عصفت بأجزائها تراكمات الأيام.. خالصة تجرها سنوات جامحة رغم عطائها.. وأقدار عبثاً حاولت حرفها عن مسارها دون جدوى.. وذلك الإرث الحزين.. وأعراس الدم اليومية.. ما يزال ذلك القلب الطيب ينبض بالحب وبالحياة .. يقلب أوراقاً قديمة.. يفتح صفحات التاريخ.. ليقدم للأجيال عناوين عُدّت من أهم ما كُتب في أدب الأطفال العراقي.. بل لا أبالغ إن قلت العربي.. متألقاً في سماء الإبداع.. رغم كل الظروف التي مر بها.. رغم قسوة القيود..

ومطاردات ما بعد منتصف الليل.. وظلم التغييب.. ومرارة التهميش.. آثر هذا المبدع البقاء على قيد الكتابة.. شأنه شأن أي شخصية تميزت واختلفت واتخذت لها مكاناً واسعاً في سجايا الذاكرة ومحطات التاريخ.. كم من المرات تداعب روحي نسمات أم الربيعين العليلة التي كانت تنعش جلساتنا في حديقة منزله الهادئ والبسيط، وجلجلة نعله القديم تكسر صمت الليالي القاتمة.. تتراقص الأوراق بين كفيه مبتهجة باقتراب إطلاق نشرها.. بعد أن أتمت مدتها القانونية بين رفوف المكتبة.. بوجهه المستبشر وابتسامته الأبدية.. يجلس ليسمعنا آخر إبداع.. ويسبق كل هذا قدح الشاي ذو الخصر الذهبي.. ومنفضة السجائر التي يجلبها ابنه الصغير على مضض!!
طلال حسن.. كاتب عراقي متميز.. مسرحي مثابر.. أديب إنسان..  كتب للأطفال وتمرس في هذا المجال حتى عُرف به، رائداً من رواد الكتابة للطفل.. كيف لا.. وهو يخوض غمار السبعين وما يزال يحتفظ بقلب طفل ذي الخمس سنوات في داخله.. كما يردد دائماً مقولته المشهورة:" في داخل كل منا طفل يتشبث بطفولته ولا يريد أن يغادر مرحلة الطفولة، حتى أنه عندما يغادرها عمراً فإنه يأخذها معه ولا يتركها في أية مرحلة من مراحل العمر.. وربما ينشغل عنها في مرحلة البلوغ وهمومها ومهامها وطموحاتها، وما أن يبلغ مرحلة الكهولة حتى ينبش عنها في داخله وعلى الورق وشاشات التلفزيون وخشبات المسارح". ومع تركز نتاجه الأدبي على الكتابة للطفل.. إلا أنه منح الفتيان والكبار نصيباً في تذوق رشاقة الكلمة وسلاسة الأسلوب اللذان يتحسسهما كل قارئ اطلع على نتاج هذا المبدع.. امتاز طلال حسن، بتقديم صورة جميلة وبرّاقة عن الصراع الطفولي الازلي بين الخير والشر موظفاً في مجمل أعماله مادة التراث الشعبي، من خلال مسرحة الفكرة ومراعاة التقبل والاستيعاب لدى الطفل وقربها الى مخيلته بما تتضمنه من الخوارق والأعاجيب بما يتلائم وقدرات الطفل العقلية وحاجاته النفسية والاجتماعية.
وربما لكون كاتبنا الكبير بعيداً عن العاصمة بغداد، حيث الأضواء والشهرة رفيقة العواصم في المجمل والعرف، وكذلك الوضع غير المستقر الذي عاشه العراق ويعيشه، هو من جعل ظهوره وانتشاره يتأخر كاسم أدبي لامع في الساحة العربية.. فهو عضو في اتحاد الأدباء العراقيين والعرب، وعضو في نقابة الفناني العراقيين ونقابة الصحفيين العراقيين.. وكذلك هو عضو مجلس أول رابطة لأدباء وفناني الاطفال في العراق.. أشرف على زاوية براعم نينوى في جريدة نينوى. كما اشرف على ملحق براعم عراقيون في جريدة عراقيون، وكذلك أشرف على زاوية الاطفال في مجلة الطفل والأسرة ويرأس حالياً تحرير مجلة قوس قزح، وهي أول مجلة للأطفال صدرت في العراق بعد 2003 التغيير! كما نال طلال حسن عدّة جوائز مسرحية وأدبية.. عراقية وعربية، منها الجائزة الثانية لمسابقة مسرح الطفل العربي في أبو ظبي عام 2000 عن مسرحيته" الضفدع الصغير والقمر".
بدأت حكاية مبدعنا مع الكتابة، منذ العام "1956"، خلال توقف الدوام في المدارس، بعد المظاهرات المندّدة بحكومة نوري السعيد في بغداد، وفترة العدوان الثلاثي على مصر، حيث مارس الكتابة الروائية متأثراً بالأحداث التي تدور حوله، لكنها جميعاً كانت بعيدة عن الواقع، وقريبة من أجواء الأفلام الأمريكية، التي كان مبدعنا مدمناً على مشاهدتها، فابتعد عن الرواية حينما لمس فيها أنها ليست لعبته التي يحبّ والتي سيعرف بغيرها فيما بعد. وبعد تخرجه في العام 1958 ثم عمله في سلك التدريس والتعليم، انغمس طلال حسن، في قراءات عديدة ومتنوعة، أدبية وفلسفية وسياسية، لكن المسرح راح يجذبه أكثر فأكثر وخاصة – كما يذكر في أحد لقاءاته الصحفية - بعد قراءته لمسرحية الكاتب الأمريكي تنسي وليمز "عربة اسمها الرغبة" التي حبّبت المسرح إلى قلبه وجهّزته للدخول إلى عوالم الخشبة، ولعل انهماكه بالقراءة  في تلك الفترة وشغفه الشديد في الاطلاع على كل ما هو جديد في الساحة الأدبية، أبعداه بعض الشيء عن الكتابة، لكنه مع ذلك، كان يكتب بين حين وآخر، فكتب أكثر من مسرحية، منها " الثلوج" و "الجدار"، حيث نشرت مسرحية الثلوج في مجلة، النبراس عام " 1974 " ، أما مسرحية "الجدار" ، وكانت في ثلاثة فصول، فقد نشرت في مجلة الأقلام، في العدد الخاص بالمسرح العربي، وهو أضخم عدد صدر في تاريخ مجلة الأقلام عام "1980"،  كما كتب بعض القصص القصيرة، وشارك بإحداها في مسابقة نظمتها جريدة "فتى العراق" وكانت بعنوان "النبتة التي تتنفس"، وجاءت مناسبة كتابتها بعد توقيفه في عام "1962"، على أثر تمزيق صور الزعيم عبد الكريم قاسم في المدرسة، والتي لم يكن له يد فيها، وقد فازت تلك القصة بالجائزة الثالثة. أما أول نصّ مسرحي للأطفال فقد في العام "1971 " بعنوان "الأطفال يمثلون"، ونشرت في مجلة النبراس عام "1976 . "
ثم جاءت رحلة طلال حسن الصحفية، فمنذ أواسط السبعينات حتى آخرها، عمل في هذا المجال المؤرق والمتعب مجرياً العديد من التحقيقات واللقاءات مع أدباء وفنانين في الموصل، ناشراً العديد من المقالات والدراسات في الأدب، ولعل الصدفة هي التي قادت طلال  إلى اكتشاف قدرته على كتابة مسرحية للأطفال، ففي أواخر عام " 1974 " ، التقى  بالأديب والناقد المسرحي الكبير حسب الله يحيى، في شارع النجفي بالموصل، وقال له بأنه ستنشر له يوم الخميس قصة للأطفال، في جريدة المزمار عنوانها "النهر"، وطلب من طلال أن يقرأها، ويبدي رأيه فيها .وبعد قراءة طلال للقصة، قرر ان يكتب هو أيضاً للطفل بعد أن وجد في نفسه المقدرة على كتابة مثل هذا النوع من القصص وربما أفضل، فكتب قصته الأولى للأطفال، "العكّاز"، ثم أعقبها بقصة ثانية، "البطة الصغيرة "، وكلتا القصتين كانتا عن القضية الفلسطينية، ثم كتب قصة طويلة بعض الشيء، بعنوان "البلبل"، ولأن بلبله غرد ضد الظلام والدكتاتورية، ولأنه نشرها في جريدة "طريق الشعب" المعارضة لحكم البعث، حرم من النشر في دار ثقافة الأطفال أكثر من سنتين، ودخل سرداب التهميش الذي ما رحم مبدعاً.
وتفرد طلال عن سواه بدخوله الذكي لعالم الطفولة والتقاطاته البارعة، وذلك من خلال تقمص ذهنية تتصل بذهنية عالم الطفل، وفي تناوله لأجواء شديدة القرب مع الطفل وغاياته وأهوائه وتطلعاته وحواراته وأسئلته الأزلية. قرأ عالم الطفل قراءة متمحص ومتفحص بواقعية حقيقية ورؤية تفصح عنها نتاجاته الأدبية في جوهر إنساني مبدع وخلاق.. هرب من جحيم الحاضر الذي عاصره وأحداث العراق المفجعة إلى أتون الماضي السحيق، وهو  يحمل صخرة الحاضر في راحتيه.. كيما يكتب ويعلم ويربي أعمدة المستقبل.. وبحكم عمله في تربية الأجيال.. منحته أجواء المدرسة فرصة التماس الدائم مع الأطفال والاستماع إليهم والتواصل معهم.
وربما كان لولادته ونشأته في مدينة الموصل وتحديداً في العام 1939م وزياراته المتكررة لآثار النمرود، قبل أن تمسخها قوى الظلام "داعش" وشغفه بكل ما هو عراقي، الأثر الفاعل في توجهه إلى استلهام تاريخ العراق القديم في اغلب مسرحياته... حيث إن أجواء ألف ليلة وليلة والأجواء الأسطورية، منحته الحرية وفضاء الإبداع والتنوّع، ما لم يمنحه إياه مسرح الكبار. جذبته شخصية الإنسان على حقيقته في ضعفه وقوته في إنسانيته ووحشيته، في واقعه وأحلامه وكذلك في طموحاته اللا محدودة، فتناولها جميعاً في أعماله.
أغنى طلال حسن المكتبة العراقية والعربية بالعديد من المسرحيات والمجموعات القصصية وفازت قصصه ومسرحياته في مسابقات محلية وعربية. حيث كتب العديد من النصوص المسرحية، حيث كان وما يزال المسرح همّه الأكبر وعشقه الأول.. وكذلك كتب العديد والعديد من قصص الأطفال التي نشرت في المجلات والجرائد العراقية والعربية، بينها أكثر من 20 كتاباً مطبوعاً في العراق وسوريا والأردن ولبنان ومصر والإمارات العربية المتحدة.. من أهمها (المجاميع القصصية: الحمامة، البحر، ليث وملك الريح، حكايات قيس وزينب، الفرّاء، نداء البراري، عش لاثنين، العش، من يوقظ الشمس، مغامرات سنجوب، دروس العمة دبة.. المسرحيات:  أنكيدو، داماكي والوحش، الضفدع الصغير والقمر، جلجامش والإعصار وكذلك قلنسوة من أجل دبدوبة) حتى أنه نشر أكثر من 1050 قصة وسيناريواً ومسرحية للأطفال، في الكثير من الصحف والمجلات العراقية والعربية.
وعلى مدى أكثر من أربعين سنة إبداعية، لم يرجم هذا الكبير أي كائن بحجر، بل كان لسانه عسلاً شافياً للصدور بإنسانيته التي عبر بها إلى قلوب جميع من يعرفه أو من يقرأ له.. وهو ما يزال حتى الآن، يبحث عن أمكنة جديدة لم يدخلها في عالم الكتابة. وبكلّ قيم التواضع يتحدث عن تجربته في مجال مسرح الأطفال، قائلاً :" كتبت ونشرت عشرات المسرحيات للأطفال، لفئات عمرية مختلفة، لكن المفارقة والإشكال، أن ما كتبته وما نشرته يزيد كثيراً عما قرأته في هذا المجال، وهو بالتأكيد أكثر بكثير جداً عما شاهدته من عروض مسرحية للأطفال، والتي لا تزيد عن عدد أصابع اليدين، وهذه معادلة غريبة ومقلوبة، لا أعتقد أنها يمكن أن تحدث إلا في منطقة غريبة مثل منطقتنا العربية، ومن الصعب والحالة هذه أن تنمو وتتطور وتتأصل حركة يعتد بها في مجال مسرح الأطفال في عالمنا المسرحي العربي".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram