TOP

جريدة المدى > عام > روايات عبد الله صخي تعيد مدينة تناساها التاريخ إلى الواجهة

روايات عبد الله صخي تعيد مدينة تناساها التاريخ إلى الواجهة

نشر في: 30 مارس, 2017: 12:01 ص

أحالتني رواية (دروب الفقدان) الصادرة  عن دار المدى للروائي عبد الله صخي الى العديد من ترنيمات الأمهات العراقيات التي كنّ بحرقة يرددنها حول مهود أبنائهن، من الدللول الى ماقاله الشاعر الغنائي الراحل جودت التميمي:لو تحسب نجوم السِّما آ يالولد 

أحالتني رواية (دروب الفقدان) الصادرة  عن دار المدى للروائي عبد الله صخي الى العديد من ترنيمات الأمهات العراقيات التي كنّ بحرقة يرددنها حول مهود أبنائهن، من الدللول الى ماقاله الشاعر الغنائي الراحل جودت التميمي:
لو تحسب نجوم السِّما آ يالولد            
  وتصوغهن لامّك تراجي بلا عدد
ماتجازي من ذاك الرِبه هزّة مهد
لوعة الأم( مكية الحسن) في رواية دروب الفقدان هي لوعة الأمهات جميعهن عندما تُبدد رياح الأقدار أحلامهن فتأخذ الولد الى دروب الفقدان وتترك لهن نواحات لا تنقطع الا بعد موتهن.

مكية الحسن وابنها علي سلمان هما اللذان يقودان ويوجهان العمل في الرواية، من خلالهما تنبثق عشرات الأحداث ومعهما تجري السنين وتتداعى الأحلام وقصص الحب التي لا تجد لها مناخاً صحياً لتنمو وتستمر، والأحزان الكبيرة والمسرات القليلة المقتطعة من عمر الزمن، وعجلة الزمن تهرس الأجساد وتسحق النفوس وتترك تجاعيدها على الجباه ومرارتها في الشفاه.
ورواية (دروب الفقدان) هي الرواية الأكثر صدقاً التي كُتبت عن شريحة اجتماعية كانت الأكثر معاناة من بقية شرائح المجتمع العراقي، رحلة عذاب بدأها عبد الله صخي في روايته السابقة (خلف السدة)، ليقتفي بعدها حياة ومصائر شخصياته في رواية (دروب الفقدان)، وإذا كانت رواية (خلف السدة) قد تناولت الهجرات الأولى لفقراء الجنوب باتجاه العاصمة بغداد ونزوحهم الجماعي هرباً من ظلم وجور الإقطاع، واستقرارهم في منطقة تقع خلف السدة (سدة ناظم باشا) بشروط حياة بائسة، فإن رواية دروب الفقدان تابعت مصائرهم في هجرتهم الثانية الى مدينة الثورة، تلك المدينة التي شرع ببنائها الزعيم عبد الكريم قاسم لينقذهم من الصرائف وشظف العيش، لكن مشروعه لم يكتمل وإنما شمل البعض والبعض الآخر صار تحت رحمة من جاء بعد مقتل الزعيم، ولاقت هذه الشريحة الأمرين من الانقلابيين بسبب تأييدها ومناصرتها للزعيم، فأصبحت هدفاً للاعتقالات والتنكيل ثم حطباً للحروب التي جرّت عليهم الويلات.
abdulla sikhiتبدأ رواية دروب الفقدان بمشهد إعدام (نايف الساعدي) أول إعدام علني تشهده مدينة الثورة لأحد أبنائها في سبعينيات القرن الماضي، مشهد سينطبع لسنوات قادمة في ذاكرة الناس، وهو بداية لحياة أكثر قسوة  أشبه بموت، وموت لا يتوقف الا ليستعيد أنفاسه من أجل حصد المزيد من الأرواح، ومدخل سيحيلنا الى إعدامات من نوع آخر، إعدام الأمل، الحلم، الأماني، بل نكاد نقول إعدام كل شيء يمت بصلة لحياة كريمة يعيشها هؤلاء  الفقراء، ونايف الساعدي شاب أثار الفزع في المؤسسة الأمنية للنظام بعد أن قتل عدداً من الشرطة ورجال الأمن دفاعاً عن (كاظمية محمد) المرأة الشيوعية التي كانت مطاردة، وهو قبل ذلك حفيد أولئك الذين هاجروا من مدن القصب والنخيل هاربين من الاضطهاد وسكنوا خلف السدة والميزرة.
المتابع للرواية بأحداثها الكثيرة وحكاياتها المتشعبة وشخصياتها العديدة سيلاحظ أن عبد الله صخي غاص عميقاً في شخوصه وتتبع تحولات نفسياتهم التي أصبحوا عليها نتيجة تراكم معاناتهم وعدم تغيير واقعهم من الفقر المدقع الذي عاشوه ويعيشونه والصراعات السياسية التي كانوا ضحيتها عبر أجيال لاحقة لذلك فهو يصفهم على الصفحتين 19 و 20 (متجهمين نزقين، طباعهم حادة كأسلحتهم، مستلبين مقموعين في البيت والمدرسة والشارع والمقهى والسوق، ما خلّف لديهم شعوراً بالتمرد والعصيان فانهمكوا في مواجهة السلطة، أية سلطة مهما كان نوعها، إنهم نبلاء ومتسولون، أوفياء وغدارون، صالحون وطالحون، يدافعون عن الشرف وينتهكونه، يمارسون قيم الفضيلة وينتصرون للرذيلة، يتطلعون الى الفرح بقوة حتى يحولونه الى مأتم).
وسط هذه الأجواء، وما يحدث بينهم وبين السلطة من مناوشات تدور أحداث رواية دروب الفقدان، حيث تكفّل هؤلاء بحماية مناطقهم وحماية الشيوعيين منهم لمجرد أنهم ضد السلطة، وهكذا قام نايف الساعدي بحماية كاظمية محمد واعترض عناصر الأمن الذين يلاحقونها فكان ما كان وتجمهر الناس لمشاهدة عملية الإعدام ومن ثم عُلقت جثته ليكون عبرة للآخرين، ومن ذلك المشهد انطلقت الرواية لتدخلنا الى الأزقة الضيقة والبيوت الصغيرة المتلاصقة ونتابع الحكاية الرئيسة لمكية الحسن التي اختصرت كل ما يقال عن صبر الأم التي تربي طفلها ليكبر، حالمة بأن مسار حياتها المؤلم سيسير على سكة السلامة وسيعوضها ابنها(علي سلمان) عن سنوات الحرمان والقهر التي عاشتها منذ هجرتها الأولى الى خلف السدة وحتى هجرتها الثانية الى مدينة الثورة وكلما ضاقت الدنيا بها تردد(الخير قادم.. اليوم الذي سيكمل فيه  تعليمه ويحصل على وظيفة بات قريباً.. وأنها ستقطف ثمار كفاحها وصبرها بعد الترمل والعوز) هذه المرأة، مكية الحسن، صبْر لم تكسره الأيام في أن ترى ابنها وهو يواصل دراسته ويعمل في البناء، وحزن مخبوء تحت ثيابها السود، وقدحة أمل، وحلم يمتد ويتسع ومعه تمتد الأحزان وتتعمّق حتى تأخذها الأقدار الى مسارات ماكانت تخطر ببالها أو ببال من يعيش معها أو يعرفها، لقد تلاشت أمنياتها ولم تقبض كفها سوى على ريح عاتية أودت بكل أحلامها وبعقلها في نهاية المطاف، وأوصلت الرواية الى نهايتها المقنعة والمفجعة أيضاً. يأخذ الفقد في هذه الرواية دور البطل الى جانب الأدوار التي حرّك من خلالها عبد الله صخي أحداث روايته بشخصيات متعددة الأصوات مرسومة بدقة متناهية حتى لنكاد نرى أدق الملامح في الوجوه ونسمع حفيف العباءات ووقع الأنفاس وحرقة الوجع في القلوب دون مبالغات بإعطاء شخصياته أكثر مما تستحق، جميع علاقات الحب تنتهي بالفقد وجميع إشعاعات الأمل  تجرفها رياح المتغيرات السياسية فتبقى الشخصيات مُلاحقة ومذعورة ومترقبة لما سيحدث لها قابضة على الحلم لعل خارطة البؤس والظروف السيئة تتغير لصالحها ذات يوم.
سرد متأجج، ومتوهج يستعر تحت جمر الأرواح الباحثة عن ثغرة تنفذ منها لفضاء الحياة الكريمة تعويضا عن سنوات القهر التي أكلت أخضرها قبل يابسها، وبرغم تعدد الأصوات وزحمة حكاياتها فإن عبد الله صخي لا يفلت خيوط حكاياته بل يمضي مع شخصياته ليكشف تاريخها المغيّب ويعيد لها الحضور نابضة بالحب برغم قساوة الحياة التي عاشتها وتعيشها، متمسكة بالأمل لآخر لحظة من عمرها المضيّع.. تفاصيل ليوميات هذه المدينة المغلوبة على أمرها في جميع المراحل السياسية، بلغة مطواعة وببراعة الروائي المتمكن من أدواته، كل ذلك لكي لا ننسى ما حصل في الماضي وما يحصل في الحاضر لئلا ينسحب على المستقبل لمدينة أعطت أعلى نسبة من الشهداء في حروب النظام السابق وما زالت تعاني، وأضافت للثقافة العراقية فنانين وأدباء، وقدمت للرياضة نجوماً برغم سمائها الملبدة بغيوم القهر والاستلاب والخوف من كل ما هو سلطوي ومواجهته أيضاً بحجم الخوف نفسه، أعطت ولم تأخذ، زرعت ولم تحصد إلا الخيبات، مدينة تناساها التاريخ السلطوي وأعادها عبد الله صخي الى الواجهة.
بقي أن أذكّر القارىء بالمنجز الإبداعي للروائي عبد الله صخي، حيث بدأ بمجموعة قصصية عنوانها (حقول دائمة الخضرة) عام 1980 واخضرّت بعدها حقول تجربته فصدرت له في حقل الترجمة العام 1984 مجموعة قصصية لهرمان هيسه بعنوان (أنباء غريبة من كوكب آخر) ثم ترجم رواية (النهر الفاصل) لنغوجي واثيو نغو، العام 1988، وصدرت له رواية (خلف السدة) العام 2008، تلتها رواية دروب الفقدان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. أبو حسين العطواني

    لا يشعر بألم ما كتبه الروائي المبدع عبدالله صخب إلا من عاش تلك الحقبة الزمنية المريرة حيث يرى أن حوال تلك الطبقة الفقيرة القادمة من الجنوب لم ترى العيش الرغيد على مر الزمان ورغم تغير السلطات لقد عاشوا في فقرا مدقع وعذابات مريرة حتى الحاكم الذي نظر إليهم ب

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram