وأنا أعيد قراءة رواية جرجي زيدان "أبو مسلم الخرساني" توالت جملة أفكار عن الأدب وكتابة التاريخ أو عن التاريخ وكتابة الأدب. وإذ أرجئ الحديث عن الضرر الذي تسببه الانشائية المفرطة واللغة غير العلمية للمتن التاريخي حدَّ اضاعة أو تشويه حقائقه، اتوقف عند ال
وأنا أعيد قراءة رواية جرجي زيدان "أبو مسلم الخرساني" توالت جملة أفكار عن الأدب وكتابة التاريخ أو عن التاريخ وكتابة الأدب. وإذ أرجئ الحديث عن الضرر الذي تسببه الانشائية المفرطة واللغة غير العلمية للمتن التاريخي حدَّ اضاعة أو تشويه حقائقه، اتوقف عند التاريخ وكتابة الأدب. الرواية هي الاوضح، كما أن الموضوع يشمل بعض القصائد ايضاً.
اما لماذا ابدأ الكلام عن رواية "ابو مسلم الخرساني" ، فذلك لأن لهذه الرواية أثراً في ذاكرتي وربما لها حضور في بعض كتاباتي. قرأتها أوّل مرة وأنا طالب في ثانوية بعقوبة وقد استعرتها من مكتبة المدرسة التي عهدوا إليَّ بمسؤوليتها من بعد.
المرحوم جرجي زيدان رجل مؤرخ وكتابه "تاريخ الاسلام" مرجع محترم. وهو ، التاريخي، كتب سلسلة روايات اختار أبطالها مما اطلع عليه من كتب التاريخ.
شخصية ابي مسلم الخرساني شخصية بطولية وملتبسة. تمتاز بعمق يندر أن تجده في شخصيات الولاة والقادة الاسلاميين في "المقاطعات" أو الولايات. وحتى الآن وبعد كل ما قرأناه عنه، ما نزال نراه من وراء غلالة من غموض، غموض صنعه الخيال معاً وحقائق التاريخ.
المهم ، وبسبب اعادة قراءته، انتبهت الى افكار عن الرواية التاريخية، وإن كنت متردداً من التسمية، المهم انها الرواية التي تتناول حقائق تاريخية أو تفيد منها وتتبنى أو تستوحي شخصيات تاريخية نعرفها مما روته لنا الكتب والمراجع. قد تكون الشخصية من القادة أو السلاطين أو الولاة أو من الاسماء المهمة الأخرى ممن لهم حضور ودور مهم في زمنهم وقد يكونون عشاقاً أو مفكرين شهداء.
أولى المسائل المثارة هي أننا بإزاء "حقائق" تاريخية مدوَّنة وأمام شخوص واحداث قرأنا عنها في كتب التاريخ. فهل نتجاوز ما قرأنا ونكتب في اجواء قريبة منها ؟ هل نغير أم لا نغير اسماء أولئك الشخوص وكلامهم وتفكيرهم ؟ لماذا اذا نستعيض هوياتهم؟ والسؤال الآخر ايضاً، هل نكتب رؤيتنا "المقروءة" أم رؤيتنا المبتَدَعة فلا يعنينا ما كانوا ؟ بمعنى آخر هل نكتب عن التاريخ أم عن انفسنا ؟ عموماً روائي التاريخ، التقليدي الأول، يختلف عن روائي التاريخ الحديث. هذا قد يكتب بموازاة أولئك مضمِّناً بعض حقائقهم وعلى وفق احتياجه الجديد. ليس شرطاً أن يكشف تلك الازمنة وتلك البيئات. هو له زمانه وبيئته الجديدة. كما هو ليس ملزماً بأن يفكر ابطاله كما كان اولئك يفكرون ولا يتكلمون كلامهم ولا يتصفون بصفاتهم الجسدية الاولى. وقد يغير نمط الصراعات والتقاطعات التي كانت. ما عدنا نريد الكتابة عنهم، نريد الكتابة عنا ولنا.
اعتقد بأن مهمة روائي "التاريخي" هي أن يكتشف اموراً أهم مما قرأناه وأوسع جدوى ثقافية. وهنا تكون روايته افضل واكثر تنويراً ويجعلها الذكاء الجديد عن حاضر، أو عن تاريخ، أرواحنا. وفي كتابة مثل هذه قد يتغير موقفنا من بعض الحقائق. ويتضاءل اهتمامنا ببعضها فنقرأها قراءة أخرى ونميل لما يدينه الراوي في كتابة التاريخ ونكره ما كان هو يميل اليه.
هذا عالم روائي مستقل له صلات غير مباشرة واحياناً مختلفة بأجواء ذلك التاريخ. حقائق التاريخ ليست كلها حقائق. هي ليست بالصفاء أو الصدق الذي نظن أو نقرأ. ثم نحن لنا فهمنا واحتياجنا منها. لهذا نحن أيضاً لسنا في منجاة من تضخيم "حقائق" وأحداث وقد يلتبس رجل الخيال برجل التاريخ أو يحل محله.
لكن هنالك رجل "حقيقي" يتعامل مع ظرف "حقيقي"، فكيف اذاً ؟ ليس لنا الا أن نفعل اقصى ما نستطيع للحفاظ على الحقيقة وأن يتناول الروائي البطل القديم ويحافظ على جوهره. لكن هذا يحدث في الروايات التاريخية الكلاسيكية القديمة وهو ما فعله "زيدان" مثلاً. بالنسبة للروائي الحديث، الأمر يختلف كما اسلفنا. يقول الاستاذ أ.ب. جثيري A.B. Gutherie : في مقال له بعنوان الرواية وحركة التاريخ: "لا احد يحدد ما يجب أن يؤخذ وما يجب أن يُهمَل. حقائق التاريخ معروضة للجميع ويمكن للجميع الافادة منها. الروائي ليس خادماً للحفاظ عليها وخدمتها. هو سيد مادته" يوظفها كما يرى وكما يفهم ويديرها ويحركها بضروراته الفنية وعلى وفق حاجته، مستفيداً من الاشارات الجانبية أو من هوامش المروي وما يحيط به. وهو، لا سواه، يقرر ما يفيد منه وما لا يراه مفيداً لعمله. وهذا هو المسوغ لكتابة رواية جديدة. هو لا يقوم بشرح التاريخ وتبسيطه. هو كاتب روائي وليس معلم تاريخ في المدارس. كتابة الرواية عمل ابداعي فكري. قد يكون تعويضاً مقابلاً، أو مماثلاً، وقد يكون اعادة فهم أو صناعة رمزية جديدة له. وهو بهذا يعيد رسم الصراعات أو يضمنها ويجعل كل ذلك أقل واقعية واكثر ذهنية.
خطأٌ فهم الرواية التاريخية بوصفها اعادة إكساء عظام الموتى باللحم واعادة عواطفهم وتفكيرهم. هذا عمل اخرق وسفيه. نحن نعمل كتابة ابداعية جديدة بثقافة جديدة. هذا يعني بأخلاقية جديدة اكثر تلائماً مع ارادتنا الادبية. نحن لا نكتب عن التاريخ، نحن نكتب عن انفسنا ولنا! ولا نترك تلك الحقائق للتاريخ، نتملكها!
أما الافكار التي تقول بأن التاريخ يجعلنا افضل بما يقدمه لنا من نماذج سلوكية وأفكار أو مواقف، فنقول: اننا الآن افضل ثقافة واعمق تفكيراً وفي احيان كثيرة اكثر عدالة.
مهما كانت آراؤنا في الرواية التاريخية التقليدية منها والابداعية الجديدة، تبقى لكلتيهما فضيلة الادب. فلولا استحضار الرواية، لظلت تلك الاسماء اسماءً جامدة في كتب. ولظلت الاحداث والمواقف أحداثاً ومواقف غابرة لا علاقة لنا بها. الرواية، بأية طريقة كتبت، تلج ممرات جديدة، لم تُسلَك من قبل، بعون من ذلك الضوء الخافت في التاريخ.
اعود لمقدمة مقالتي عن جورجي زيدان وابي مسلم الخرساني، فأنا ارى الكاتب، رحمه الله، لا أراد أن يكون مؤرخاً صرفاً ولا أراد أن يكون مبدع أدبٍ حديث. هو قدم أدباً بمادة تاريخية واحترم نقاطاً في خط السيرة الأول، كما يراها هو. انتبهت لمقدرته الفائقة في عرض الحدث وكيف يحرك الشخصية وينطقها بما يلائم ميله الخفي والذي يفصح عنه عموم المتابعة والعرض. عليَّ أن اعترف بأنه استطاع أن يرسم بيئة وامكنة وأن يرينا البطل القديم حيّاً، وبقي في الأدب. هو لم يهمل حقائق التاريخ لكنه كان يلتقط ما يفيده فكرياً وادبياً بذكاء. واظن انموذجَ رواياته مختلفاً عن الروايات التاريخية المماثلة في زمنه.