هذه العنوّنة غريبة وفيها شيء من اللا مألوف، لأن الفردوس استدعى الشعريات لتتقدم عليه وتعطيه أكثـر من طاقته المعروفة في الأساطير والنصوص المقدسة. ولأن الأسطورة والنص المقدس يمنحان المتلقي شعرية عالية، فهنا تتحول الغرابة الى مألوف، وندخل بقراءة سريعة وم
هذه العنوّنة غريبة وفيها شيء من اللا مألوف، لأن الفردوس استدعى الشعريات لتتقدم عليه وتعطيه أكثـر من طاقته المعروفة في الأساطير والنصوص المقدسة. ولأن الأسطورة والنص المقدس يمنحان المتلقي شعرية عالية، فهنا تتحول الغرابة الى مألوف، وندخل بقراءة سريعة وموجزة عن الفردوس المتخيل بالألوان وهي اختيارات اشتغلت مثل المرايا في كشوفها المتكتم عليها، لكن التجريد فالتٌ من وسط ضجة الألوان لترسم فردوساً خاصاً بالجسد، الكائن، الموجود الذي استطاع أن يبتكر كينونته/ الفردوس.
وليس صعباً أن نومئ إلى الكائن بشعرياته. إنه جسد ذكوري وآخر أنوثي، يتجاوران عبر شعريات تفضي لجنائن صغيرة، ترسمها الحركة والسعي للذوبان تحت تهطال المطر المتعالي والمتسامي بما يتساقط منه، مثلما هو حاصل في أساطير سومر حيث الأرض مستدعية وفرحانة لأن الانبعاث سيجعل من الأرض فردوساً.
شعريات الألوان، هي مطر وألوان الفردوس، الانفتاح والاندهاش بحضور الطاقة وتناوب النداءات، المستعطفة الصارخة، الهاجسة، اللجوجة، المترجية، في اشتغال الفردوس، أي حضور برق مكهرب، يومئ لاستراحة مؤقتة، فيغيب الكائن في استراحة مثل الرماد والسكون لكل ما يفضي لحضور الجسد في الفردوس/الفردوس التي تمكن الكائن الخلاق من ابتكارها في لحظة هطول المطر، واشتعال النار.
تمكنت الفنانة خولة الحسيني من محاورة المجهول والدنو منه والتمكن من اكتشافاتها بوساطة الألوان السحرية التي تبّدت لي وكأنها مبتكرة الآن ولم تكن قائمة قبلاً. النداء والاستجابة، لم تعد مميزة ومعرفة، ومن هو الذي أرسلها، ومنتظراً جواباً عليها، حتى ولو همساً.. النداء دال على الكائن والشروع بثنائية الإيقاع هو الفردوس الذي يمنح معناه لمن يتوسل بالمعنى من أجل الاستراحة والذهاب نحو الإغفاء، لكن الليل يوقظ الألوان التي لم ترَ عين الكائن مثيلاً لها من قبل وتتداخل حاضرة على السطح التصويري وتنشغل ببث رسائل سرية، لكن الحاضرين بالفردوس، الذكر والأنثى يعرفان فك الطلاسم المكونة لها، رسائل متكتمة على السحر والشعائريات لتعطيها ما يجعل الجسد مرتبكاً وهو يعاني من زمن المعاودة.. لكنْ للفنانة أوقات لنوع من الانفلات والسعي للخلاص، لذا تشوش الذكوري المنقاري كالديك الذي سيّج الأنثى بما يشبه السجن بقضبانه الأربعة، وأضفت عليه الفنانة سريات الحكمة العراقية القديمة وتمثيلها الإله آنكي. ورمزها السحري المُسّيج الآخر بقضبان خمسة هو الجذر السحري للعدد الرامز للآلهة أنانا/ عشتار.
الرموز حاضرة، خلاقة وحتماً هي كذلك لأن الشعريات تتكون من شبكات الرموز. وما دام الجسد/كائن ويحتاج كينونة هايدجرية، قلنا بأن الفردوس هو الكينونة ومثلما قال نيتشه نحن رموز ونسكن رموزاً، الرمز حاضر في لوحات خولة الحسيني، لا بل هي شبكات من الرموز وهذا ما انتهى الاتفاق حوله وأنا أفترض ذلك وإلاّ فإنَّ حيازتنا للمعاني ممتازة . لأنَّ الرمز يعني حضور المعنى ولا أظن بأن أحداً لا يعرف الرمز. هو معرّف به، ومصرح، ومتكلم عليه. الرمز من وحدات الدين الثقافية.. والفردوس ديني/ مقدس. الجسد ديني وطقسي.
الفنانة لعبيّة، بمعنى مراوغة في العرض وعلى الرغم من أنني تابعت ثلاثين لوحة وهنا يصعد العدد السحري للآلهة أنانا/ عشتار، المعروفة بوظائف الزواج المقدس والفنانة خولة الحسيني تعرف ذلك جيداً. لكنها راوغت المرويات التي صاغت فيها سردية كبرى، خاصة بثنائية الجسد الذكوري، الأنثوي وحاولت بعثرة القصدية وإحلال الاعتباطية في تراتبية الطرفين.. إلا أن استدعاء الفردوس الثنائي لم يتعطل أبداً.. لعبيّة الفنانة واضحة معبرة عن ذكاء لبعثرة المرويات حتى لا تفضي للتراتب الحكائي. فجعلت من لوحة السواد والتلاشي والفقدان ضمن استدلالات العرض.. واستبعدت البياض الذي يومئ بوضوح لرمزية القداسة الجسدية للأنثى.. إنها هتك الرمز المستور وسط فضاء البياض المتراكم وهو يعلن عن نوع من شعرية لن أفصح عنها حتى لا يفهم من كلامي هيمنة مرجعيات خارجية على قراءة اللوحات وتأويل الضجيج الحسي والطوفان المغرق للفردوس. كان العالم الآثاري أندريه بارو أول من قال بوظيفة الفن الدينية وكرر الكثير من المهتمين بالتنقيبات الآثارية وتاريخ الفن بهذا الرأي الذي صاغ عتبة أولى وقال أندريه بارو: إن كل عمل فني عظيم ينتج عن الدين ويعبر عن رؤية للعالم مماثلة للدين أو موازية له، على اعتبار أن العمل الفني هو مصغر الكون، إنموذج أو إشارة لعالم ينظر إليه من خلفية فهم كلي إذا ما حصل أن ضاعت الرؤية والديانة، فإن النشاطات الفنية "الرمزية" تموت في اللحظة ذاتها وعلينا الانتباه لملاحظة بارو الجوهرية التي تفصح عن وجود الأصول الثقافية والدينية الأولى التي عرفها شعب من الشعوب ويومئ الى الرمز القائم مع الفن وشبكة الرموز التي تغني العتبة وحضورها وهي التي تعطي الفن روحه وقيمته. وإذا غاب الرمز اندثر الفن وتحول الى عبث من الألوان.. هذا الرأي يعود بنا الى العنوان "شعريات الفردوس" وعلاقة ذلك بالديانة، إنه ديانة مبكرة وليس تجديد معين.. كما أنَّ ثنائية الذكري، الأنثوي هي امتداد ثقافي تهيكل عليه الدين بوقت أول. لذا فإن تعاملنا مع الرموز الآن في التداول بوصفها أصول بدئية، ارتبط بأنظمة الآلهة وخضعت للتحول التدريجي حتى عرفناها بالرموز الخاصة بالثقافة الشعبية، وهذا يؤكد ما ذهب إليه هيغل في دراساته الموسوعية عن فلسفة الجمال، وارتباط الرموز بالفنون كلها. وكل توظيفات الفنانة خولة الحسيني من أجل استنطاق الجسد المحفوف بالأسرار، والفاضح لها في آن وأكثر ما أثار دهشتي التقاط الفنانة للرمز الطيري الأخضر، وأعتقد بأنه أحد أهم الرموز التي اختزنتها الذاكرة البشرية، فالطير الأخضر الذي كتب عنه غوته هو الذي كتب عنه العقل الشعبي المصري وأيضاً الفلسطيني وكذلك العراقي –أنا أشتغل على هذه الحكاية الآن- . وظفت رمز الطير الأخضر بشكل يختلف لما أفضت إليه الحكايات المذكورة والتي تمركزت حول الحياة والموت والنزول للعالم السفلي، بينما في لوحة واحدة ذات فضاء أخضر/ الخصوبة الانبعاث ووسط حسيات متسامية انبثقت طيور خضراء ملأت السطح التصويري برفرفات تستدعي التأمل وأستطيع أن أعتبر هذه اللوحة عملاً تشكيلياً عميقاً في توظيفاته، مبجلاً للطاقة التي لم تجد منفذاً كي تعلن عن حضورها وتجددها. وأعتقد بأن اللوحات الأخرى استعاضت بالنثار التقطيري/ النقطي عن الطيور.
سيادة الخريف، ذبول يومئ للسبات/ الاندثار بحيث شكلت هذه اللوحات مجالاً مضاداً لمجال الانبعاث والتدفق والفوران، وقاد الخريف/ الإصفرار الى رماد/ سواد وإشارة لانطفاء تام. وفي المعرض لوحة تجوهرت بين التضادات الرمزية والدلالية وقد تمظهرت عن رمز مفضوح ضعيف الطاقة وأعني الحبل والقطع المخلّص/ المنقذ. لكن اللوحات الخمس المنشطرة والمتجاورة تؤشر بخفاء وكتم الى أن الأنثى هي التي قوّضت الكينونة الإخفائية والمشتركة. وفي إشارة سريعة للوحة البيضاء الطقسية/ الحلمية والأسطورة، بوصفها تظل أكثر تخيلات الأنثى.
المثير أن الفنانة خولة الحسيني مثيرة بتحققاتها الثقافية والمعرفية والإبداعية. أنا سعيد بما امتلكت من طاقات وأنا واثق بأن الكامن أكثر ونحن بانتظار الانزياح/ المتحرك.