TOP

جريدة المدى > عام > وجوه الحب الثلاثون..وصفة مدام بوفاري للبحث عن الحب في مكان آخر

وجوه الحب الثلاثون..وصفة مدام بوفاري للبحث عن الحب في مكان آخر

نشر في: 15 يوليو, 2017: 09:01 م

|    14    |
ذات مساء كانت تنصت لحديث يدور بين شخصين يجلسان على مائدة قريبة منها ، كانت تتناول العشاء في مطعم صغير يقدم الاكلات الايطالية ، احد المتحدثين  يبدو كلاسيكي الملبس تغطي عينيه نظارة طبية سميكة ،  نظر

|    14    |

ذات مساء كانت تنصت لحديث يدور بين شخصين يجلسان على مائدة قريبة منها ، كانت تتناول العشاء في مطعم صغير يقدم الاكلات الايطالية ، احد المتحدثين  يبدو كلاسيكي الملبس تغطي عينيه نظارة طبية سميكة ،  نظراته تكاد لا تفارق وجهها وهو يتحدث مع صاحبه  ، كان النقاش يدور حول ما اذا كانت مدام بوفاري مذنبة في خيانتها لزوجها ، ام انها ضحية لمجتمع متزمت ، بقيت تصغي للحديث باهتمام ، على الرغم من انها لم يكن باستطاعتها  ان تفهم اي شيءٍ مما يقولانه، فهي لم تكن تعرف من هي مدام بوفاري التي يدور حولها هذا الحديث الساخن.

البحث عن السعادة
"نحن مملون بالتأكيد" ، كانت هذه هي الجملة الاولى التي قالها احد المتحدثين وهو يقترب منها ويقدم نفسه :
 -اسمي آرثر ميلر هل تسمحين لي ان أقدم لك كأسا من النبيذ
ابتسمت مارلين مونرو التي سمعت من قبل بهذا الاسم " آرثر ميلر " كانت قد شاهدت مسرحيته الشهيرة " موت بائع متجول " والتي حصد من خلالها ميلر جائزة جائزة نقاد الدراما .
تبدأ المسرحية من عودة " ويلي لومان " من جولة عمل كان يريدها أن تكون الأخيرة، لكنه لم يكملها، بل رجع الى بيته مهزوماً. وعلى الفور ندرك انه كان من الذين يؤمنون بما تروجه اساطير الحضارة الاميركية التي تقول ان مظهرك الحسن يمكنه أن يؤمن لك الثروة والحب ، وهي النظرية التي ربى ولديه (هابي وبيف ) عليها. غير اننا سرعان ما سنكتشف ان الابناء باتو شباباً عاجزين لامبالين.. وهنا لكي ينسى لومان اخفاقات حاضره والديون التي تحاصره ، يستعيد بعض لحظات الماضي السعيد، أيام كان يشعر بأن زوجته تهيم به . غير ان الذكريات لا تدوم، وها نحن نرى لومان يعاني من فراغ عاطفي وازمة مالية ، ونجد الزوجة ليندا، تحاول اقناع ابنائها بالسعي للحصول على بعض المال بغية تمويل مشروع كانت العائلة تحلم بتحقيقه ، وتحت تأثير الشرب، يعود لومان مرة اخرى الى الماضي من جديد، ليتذكر اللحظة التي حدث فيها الشرخ في إيمان الابناء بوالدهم : كان ذلك في مشهد اكتشف الابناء وجود أبيهم في صحبة امرأة في أحد الفنادق. بعد هذا المشهد نعود الى الحاضر، وإلى البيت حيث نجد الابناء يواجهون والدهم بانه بنى حياته وحياة عائلته على قيم مزيفة ، ولكي يقوم بفعل يعبر عن ارتباطه بعائلته، يُقدم ويلي لومان على الانتحار آملاً بأن تساعد أموال التأمين على حياته، ولديه وزوجته على الانطلاق في حياة جديدة. في حديثها عن زوجها ، تخبرنا ليندا ان الحب قد اختفى من حياتهما منذ زمن طويل ، بسبب عجز ويلي على الظهور بمظهر ناجح .
قال أرثر ميللر بعد النجاح الكبير الذي حققته المسرحية :" إنها قصة جيل يقوم بتسويات أخلاقية. رجال جذّابون، أكبر من الحياة يفتقدون الى الحب الحقيقي ".
كانت مارلين مونرو ترغب في لعب دور زوجة " ويلي لومان " ، لكن شخصية المرأة التي تضحي بزوجها من اجل المال ربما كانت تضر بصورتها . في تلك الفترة حققت نجاحا كبيرا من خلال فيلم سعادة الحب وأرادها المخرج ديفيد ميلر ان تكون نموذج للفتاة التي تقدم صورة جديدة عن الحب وتتذكر في مذكراتها " قصتي " ان ديفيد اخبرها ان عليها كامرأة ان تتمتع بشخصية جذابة، واثقة من نفسها، وجمالها، وذكائها.
كانت نصيحة ديفيد تتلخص بالكلمات التالية :" احصلي على حب كبيرلتعيشي حياة سعيدة وتحققي أموراً كنت تحلمين بها دوماً!"
عندما تعرفت مارلين مونرو إلى الكاتب المسرحي آرثر ميلر عام 1951 كانت في الـخامسة والعشرين من العمر، فيما كان هو قد تجاوز الخامسة والثلاثين . وبحسب مذكراتها : " بدا لها ميلر فارساً من كتب الحكايات، وهكذا كسب تقديرها. في شعور كهذا ولد الحب بينهما لكن وصوله إلى مرحلة النماء احتاج إلى خمسة أعوام أخرى" .
تقول كاترين كروهن في كتابها "حلم نورما جين" ان العلاقة بين مونرو وميلر بدأت بشكل تقليدي ، اشبه بحكاية بيجماليون المسرحية التي كتبها برنادشو والتي تقوم على رهان يقوم بين العالم الأرستقراطي ، هنري هيغنز، وصديقه بيكرنغ على فتاة هي إليزا دوليتل، يلتقيان بها ذات يوم فتلفت لهجتها المبتذلة وأسلوبها الوضيع في التصرف نظرهما. وهنا يقول هيغنز لصديقه أن في إمكانه، خلال أسابيع قليلة، أن يحوّل هذه الفتاة الى امراة أرستقراطية، بمجرد تعليمها أناقة الحديث وأسرار اللهجة الراقية. ويدنو هنري هيغنز من بائعة الزهور إليزا، عارضاً عليها أن يعلمها المنطق والطريفى المثلى بالحديث مقابل بعض مال يعطيه لها. وهكذا يصطحبها الى منزله، وتبدأ التمارين على الفور، وخلال التمارين تبدي ليزا من الاستجابة للتعلم ما أذهل أستاذها. وهكذا خلال الفترة المحددة، تنجح إليزا في الاختبارات التي أجريت لها، وتحسّن نطقها... وسنرى أن النطق لم يكن وحده ما تحسّن لديها. وتجلى ذلك خلال حفلة اصطحب فيها هيغنز تلميذته النجيبة ليقدمها الى الحضورعلى أنها دوقة، من دون أن يكشف سرها لأحد، وتتصرف إليزا مثل دوقة حقيقية، نطقاً وأناقة، وتبدو كأنها طالعة من فورها من أرقى العائلات والمدارس الأرستقراطية. وإذ يروح الأستاذ والكولونيل يهنئان نفسيهما بذلك الانتصار الكبير، وبنجاح التلميذة وقدرتها على إقناع الجميع بأنها ليدي حقيقية، تكون إليزا قد أضحت في عالم آخر تماماً، فهي انتبهت فجأة الى أن الرجلين لا يقيمان أي وزن لدورها في الحياة ونكتشف انها خلال أسابيع العمل كان الاستاذ قد استهواها الى درجة أنها وقعت في غرامه، من دون أن يلاحظ هو شيئاً، وها هو الآن يتجاهلها تماماً كامرأة ، معتبراً إياها مجرد مادة أجرى عليها اختباراً ناجحاً. ولان هنري هيغنز المهووس بعلمه وانتصاره، لم يخطر في باله أن للمادة التي اشتغل عليها أي مشاعر خاصة. ما كان ليخطر في باله أنه في الوقت الذي كان ينمي لديها مقدرات لغوية واجتماعية، كان يبعث في قلبها دفء الحب. وإليزا إذ تيأس من قدرة هيغنز على فهم ما بها، وتشعر أنه لايقدر مشاعرها ، فهو يسعى الى الصداقة ، وهي تريد الحب ، وفي النهاية لم يعد في وسع إليزا التي صارت الآن أكثر ثقة بنفسها وقدرة على مجابهة الحياة، إلا أن تخطو خارج حياة أستاذها، معلنة أمامه أنها ستتزوج شاباً ، كان يطاردها منذ زمن بعيد. كما تعلن أمام هيغنز أنها، من الآن وصاعداً، لم تعد راغبة في العودة الى بيع الزهور وستصبح أستاذة صوتيات، مثل هيغنز تماماً، بل في التنافس معه.
************
الهدية من فلوبير
أمسكت مارلين بسماعة التليفون وأدارت الرقم صوت ميللر على الطرف الآخر بادرته قائلة:
- غدا عيد ميلادي ، أريدك أن تحتفل معي في منزلي.
ووضع ميلر السماعة. وفكر بالهدية التي تقدم في مثل هذه المناسبات ، كانت لديه فكرة ضد الهدايا وتقديمها.
ذهب في موعده ودق جرس الباب لتفتح له مارلين الباب وقبل أن يخطو إلى داخل الشقة ، أعتدل واقفا وهو يناولها ظرفا مزين بشرائط ملونة
- اتمنى ان تتقبلي هديتي ؟
كانت الهدية نسخة من رواية مدام بوفاري لغوستاف فلوبير
بعد ايام وجد ميللر نفسه أشبه بالمسحور ، كانت هناك قوة خفية تدفعه لمتابعة أخبار مارلين رغم محاولاته مقاومة ذلك ، قال لأحد اصدقائه
 - إنهما غاية في البساطة ومن أشد المغرمين بالمسرح أنا واثق أنك ستحبينهما.
ولأنه خجول بطبعه قررت مارلين ان تقتحم عالمه وتبدأ هي الخطوة الأولي ، فقامت بدعوته لتناول العشاء في أحد المطاعم الفاخرة ، فقد أدركت انها وقعت في عشق الكاتب الشهير ، كما تأكد هو أيضا أنه أغرم بها وكان لفرط حبه وجد في نفسه مبررا لمظاهر السهر والحفلات التي كانت تحضرها مارلين وكان حبه يجعله يجد معظم تصرفاتها طبيعية ومعقولة.
كرس ميلر نفسه لتثقيف مارلين ، وكتلميذة له تعلمت ما هو اكثر من المسرح :" لقد تعلمت علم النفس والتاريخ واخلاقيات الفنون الجميلة والذوق درست مجموعة كبيرة من المسرحيات ، كان ميلر يناقش شخصياتها والأساليب المختلفة لادائها : " لم أكن قد سمعت شيئا بمثل هذا السحر أبداً مثل حديث معلمي .في كل مرة يتحدث كان العالم يبدو اكثر رحابة واكثر بعثا على الحماسة " ( كتاب حلم نورما جين ) .
وذات ظهيرة كانت تقرأ معه مسرحية شكسبير الشهيرة روميو وجوليت وطلب منها ان تؤدي امامه احد مشاهد المسرحية ، وافقت بشرط ان يؤدي هو دور روميو :" أن اؤدي مشهداً أمام ارثر ميلر لهو أمر اكثر اثارة من ان امثل في اي فيلم عرفته " .
واثناء ادائهم لمشهد اللقاء الشهير بين روميو وجوليت في احدى حدائق القصر ، توقف ميلر فجاة ثم نظر الى مارلين بابتسامة وسألها :
- هل بامكاني ان اطرح عليك سؤالا شخصيا ؟
• تفضل
- هل ستخبرينني بصدق ، إذا ما كنت تفكرين بشخص ما ، بينما كنا نؤدي المشهد .
• هناك شخص افكر به بالتأكيد ..قالت مارلين
- هل يمكن ان أعرف من هو ؟
اقتربت منه وهي تمسك بيديه ثم قالت : " انه أمر غريب ، طوال فترة اداءنا للمشهد ، ظللت أشعر بجاذبية غريبة نحوك ، كما لو كنت امرأة يتملكها العشق ، انا تزوجت من قبل ، وعرفت الكثير من الرجال ، لكنني أول مرة أرى نفسي مشغولة البال بالحب " .
في كتابها " قصتي " تكتب مارلين مونرو ما كان يمكن لآرثر أن يتزوجني لمجرد أنني شقراء ، كنت بالنسبة اليه ملهمة ، وكان بالنسبة لي معلما فتح امامي طرقاً جديدة للمعرفة "
وتكتب كاترين كروهن في " حلم نورما جين " : " برغم كثرة علاقاتها الغرامية وزيجاتها العديدة المذكورة، فإن أحدا لم يلتفت إليها أو يحاول قراءة ما بين سطور مونرو غير رجل واحد، أعاد صياغة مارلين مونرو، هو ميلر، الذي غيّر خارطة أولوياتها، وطريقة تفكيرها ليجعلها امرأة مهتمة بتنمية الوعي والفهم لما يدور حولها، ومحاولة لمنافسة نفسها في القراءة، وشجعها على أن تكتب كثيرا وهو ما لم يلتفت إليه أحد، ربما كانت كتاباتها تتسم بالركاكة أو الضعف، لكن كانت تلك الكتابات خطوة على الطريق نحو التغيير، وتشكل بالفعل فهم مونرو لطبيعة جمالها الذي كان حتما سينتهي في وقت ما، فأرادت أن تعتني بالجانب الجميل فيها والذي لم يره الآخرون، أو تعمد الجميع حصرها فيه " .
في 29 تموز من عام 1956، تنشر الصحف خبر زواج الممثلة المثيرة من الكاتب الشهير ، ويكتب ميلر في مذكراته عن علاقته مع مونرو: " كانت كالضوء الذي يحيطني، تثيرني تناقضاتها وغموضها" .
كانت مارلين تعتقد انها بحاجة الى حب مثل الذي عاشته بطلة برنادشو فميلر الرجل الوحيد الذي حاول أن يكتشف الوجه الآخر لها .
في إحدى المرات، تكتبت مارلين قصيدة لميلر، بدأت بها حالمة وانتهت القصيدة برؤية ضبابية كئيبة لتعكس خوفها الدائم وشعورها بأنها برغم عثورها على ما تتمناه، لكنها موقنة بأن ذلك الحلم الذي تعيشه لن يستمر:
" حبي ينام بجانبي
ينام حبي بجانبي
تحت النور الخافت أرى فكّه الرجولي
يتراجع ويعود
فم صباه
بعذوبة ولا أعذب
رقته ترتعش
في سكونه
وعيناه لا بد أنهما
تطلان بذهول من كهف
الصبي الصغير
حين كان ينسى الأشياء التي لا يفهمها…
لكن هل سيبدو كذلك حين يموت
أواه يا أيتها الحقيقة المحتمة التي لا تحتمل
ولكن أسرعان ما سيموت حبه
عندي.. أو أموت عنه
************

الموت حباً
ذات يوم تفتح مارلين مونرو الهدية التي قدمها لها ارثر ميلر قبل الزواج رواية مدام بوفاري ، فتجد نفسها امام حكاية شبيهة بحياتها
كان الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير قد كتب عن الزوج يوجين ديلمار ، طالبَ طب يدرس الجراحة على يد والد فلوبير وكان طالباً عادياً فشل في العديد من الاختبارات الجامعية ، ولم يستطع نيل دبلوم الطب فأصبح مأموراً في إحدى دوائر الصحة. في ذلك الوقت تزوج من أرملة تكبره بالعمر لكنها توفيت بعد سنوات ، فأصبح وحيداً، وراح يبحث عن رفيقة لحياته ، عندئذ قابل فتاة في السابعة عشرة من عمرها ، جميلة ذات شعر أشقر وجسد متناسق كانت ابنة لواحد من مرضى ديلمار، تعلمت في دير وقد امتلأ رأسها بالأحلام التي تثيرها قراءة الروايات الرومانسية ، في البدء كانت تعتقد انها تزوجت من فارس أحلامها ، لكنها سرعان ما اكتشفت ان ديلمار انسان فاشل وثقيل الظل ولايملك الطموح ، كانت تحلم برجل مندفع مثير ، لكنها بدلاً من ذلك تزوجت بإنسان غبي يصفه فلوبير بدقة :" كان حديثه مسطحاً مثل رصيف الشارع ، انه لايستطيع السباحة ، لايستطيع المبارزة والإمساك بسلاح ناري ، مشاعره عادية ، يعانقها في أوقات محددة ، وأصبح الجلوس معه غير محتمل ، يحلو له ان يلتهم الطعام الذي أمامه بشراهة ثم يذهب الى الفراش ليستلقي على ظهرة ويشخر".
ونجدها كثيراً ما تردد حين تكون لوحدها : "يا إلهي لماذا تزوجت"، وتحاول ان تتخيل ذلك الزوج الذي لم تعرف ، رجلاً وسيماً وفطناً ومتميزاً وجذاباً ، وتسأل نفسها ما العمل؟ هل سيدوم هذا البؤس للأبد ، كانت تتوق الى الحياة الصاخبة ، تبحث عن الحب ، عن رجل يختطفها ويطير بها بعيدا ، لقد قررت ان تفتح الباب المظلم ، ففي مقابل احتقارها لزوجها وللحياة السخيفة التي تعيشها معه ، نظرت في المرآة الى جمالها وأيقنت ان بإمكانها ان تحوِّل أحلام اليقظة الى واقع ، قررت ان تكتشف عالماً اكثر إثارة يحقق لها وجودها . بدأت تبالغ في إنفاق الأموال على الألبسة والحفلات دون ان يعلم زوجها ، وسرعان ما تراكمت عليها الديون ، وبعد ان تفقد الرغبة في الملابس والحفلات ، تقرر ان تغوي الرجال . في البداية كان العشيق جاراً لها يدعى لويس كامبيون ، ثم عامل المزرعة ، ثم كاتب العدل ، ثم العديد من الموظفين الشباب. ويكتب فلوبير في الرواية :" لقد بدأت تعيد الى ذهنها بطلات الروايات التي قرأتها ، وبدأ هذا الفيلق من النساء العاشقات يغرد في رأسها ".
أهملت زوجها وابنتها الصغيرة وأقاربها وجيرانها ، لكنها في النهاية بدأت تشعر بالملل ، كل هؤلاء العشاق الذين مارست الجنس معهم مخيبون للآمال ، وأخيراً في فجر السادس من اذار عام 1848 بدأت المشاكل تحاصرها : زوجها أفلس ، العشاق تبخروا ، تقرر ان تتناول جرعة مميتة من الزرنيخ لتنهي حياة بلا طعم ولا أمل .
كان فلوبير مقتنعاً بأن قصة ديلمار هي وسيلته الوحيدة لإثبات موهبته الأدبية ، ولإسكات الأصوات التي كانت تقول ان هذا الشاب الذي دخل عامه الثلاثين سيظل مجرد مراهق أبله طائش يزحف وراء رائحة النساء . ألا ان هناك مشكلة يجب ان يجد لها حلا ، فالقصة سوقيّة ونشرتها معظم الصحف ، لكنه لم يستطع مقاومة سحر السيدة ديلمار وإصرارها على ان تتمتع بكل ذرة من جسدها ، بقيت مشكلة مستعصية هي رفض أمه القاطع ، ان يكتب عن موضوع هذه السيدة خوفاً من مقاضاته، وأيضا لأن الموضوع مبتذل ، لكنه في النهاية استطاع إقناعها ، بعد أن قرر تغيير أسماء الشخصيات لتتحول السيدة ديلمارالى "مدام بوفاري".
سارت الرواية ببطء شديد ، ست صفحات في الأسبوع، قال لأمه : " يالها من مهنة صعبة مهنة الكتابة ، القلم أشبه بمجذاف ثقيل " ، ظل يعمل سبع ساعات في اليوم على مدى اكثر من خمس سنوات ، درس خلالها كل ما يتعلق بالروايات الرومانسية التي ربما قرأتها السيدة ديلمار او مدام بوفاري، وحاول دراسة تأثير مادة الزرنيخ على وظائف الجسم ، ومن حين لآخر كانت الكتابة تصيبه بالمرض :"عندما كنت أصف تسمم إيما بوفاري كنت أحس بطعم الزرنيخ في فمي ، وقد عرّضني ذلك الى آلام في المعدة وسوء في الهضم رافقني طوال حياتي . ويكتب الى صديقة : " لقد توقفت عن الكتابة لا أستطيع مغالبة دموعي" ، ولم يكتف بشهادات الجيران ومعارف السيدة ديلمار ، بل ذهب الى القرية يستطلع مجريات الاحداث التي تتعلق بتفاصيل حياة البطلة ، وفي الدوائر الرسمية ومراكز الشرطة اطلع على التقرير التالي : " يوم السادس من اذار 1848 انتحرت في قرية ري نورمانديا ، سيدة في السادسة والعشرين من عمرها بتعاطي كمية كبيرة من الزرنيخ " .
في يوم الاحد الخامس من اب عام 1962 وجدت جثة مارلين مونرو في منزلها ، فارقت الحياة بعد ان تناولت جرعة كبيرة من الحبوب المنومة ، رغم ان البعض يعتبر الظروف المحيطة بوفاتها تثير الكثير من علامات الاستفهام ، وقد وجدت الشرطة الى جانب سريرها نسخة من رواية مدام بوفاري ، وعليها تعليقات ، كانت مارلين تكتبها اثناء مطالعتها للرواية . وفي داخل صفحات الرواية كانت هناك ورقة صغيرة مكتوب عليها بخط دقيق :" كان ميلر كأي نجم من النجوم التي ننظر اليها في سماء الليل لنتمنى امنية ما ، ومع انه اليوم بعيد جدا ، الا ان ضياءه ما يزال حيا في حياتي والى الابد".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram