أحياناً أذهبُ إلى مقهى بعينه، أقرأ أو ألتقي صديقاً. هذه المرة أقترح صديقٌ مقهى مختلفاً لا عهد لي به، قال إنه مقهى ما بعد حداثي. وكان كذلك حقاً: البهو القديمُ المهجور استؤجر وتُرك على حاله عن قصد، فالجدران تُركت بتصدعاتها، وبتقشر طلائها وعريها عن طبقة
أحياناً أذهبُ إلى مقهى بعينه، أقرأ أو ألتقي صديقاً. هذه المرة أقترح صديقٌ مقهى مختلفاً لا عهد لي به، قال إنه مقهى ما بعد حداثي. وكان كذلك حقاً: البهو القديمُ المهجور استؤجر وتُرك على حاله عن قصد، فالجدران تُركت بتصدعاتها، وبتقشر طلائها وعريها عن طبقة الجص هنا وهناك، وأنابيبُ الغاز والماء وأسلاكُ الكهرباء تمتد بحرية على الجدران والسقف صدئةً عارية. الطاولاتُ خشبية طويلة تحيطها من الجانبين مقاعد خشبية طويلة بلا مساند، من تلك التي تقع عليها في الحدائق العامة، وكراس من الأثاث المستعمل الذي لا قيمة له. ولعلَّ صاحب المقهى أسهم بتشويهات إضافية لكي يبدو المكان على درجة من البدائية مقنعة للمزاج المابعد حداثي، الذي عرفته الحياةُ والثقافة في المدن الغربية منذ الستينيات. المقهى في النهاية لم تعد مكان استراحة واسترخاء، بل "فكرة" تُرضي رغبة دفينة في الانتماء.
إنها إنجاز عملي من حركة "الفن المفاهيمي" Conceptual art، الذي تصدّرَ فنون مابعد الحداثة. ألقيتُ نظرة على لائحة الأسعار معلقة على الجدار فوجدتها أعلى من أسعار المقاهي الأخرى التي أرتادها. لابد أن تكون الزيادة بدل انتساب للفكرة، ولهذا الجهد المشاكس الذي يرفع من المعنويات المابعد حداثية.
"مابعد حداثة" هذه المقهى لا تختلف كثيراً عن "مابعد حداثة" الفكر والأدب، التي تسربت للحياة الغربية ببطء، منذ مرحلة سبقت الستينيات بالتأكيد. ولكنها منذ الستينيات بدت صارخة، بأفكارها وأبطالها في الفكر والأدب والفن والموسيقى. إنها موجة أو موضة مضادة للحداثة، تُنكر كل العناصر التي أنجزتها الحداثة في حقول المعرفة والفن منذ "عصر التنوير". إن إنكار العقل كدليل معرفة بين الانسان والحياة أبطل كل قيمة يطمع بها الانسان في المعرفة والفن. ما من معنى في كلمة، أو إثارة جمالية للذائقة في عمل فني، أو استجابة روحية لقطعة موسيقية. إنها سبل لا للمعرفة والتنوير، بل لبلوغ "العدم"، هذا الهدف المسكر في كل نتاجات هذه الموجة.
الموسيقي الأمريكي جون كيْج Cage يضع عملاً من فن "الرباعية الوترية" يسميه "4’33"، على أن يجلس العازفون مع الفايولين (عدد2)، الفيولا والتشلو دون حركة ودون عزف على امتداد 4 دقائق و33 ثانية. بعد مشهد الصمت يصفق النقاد بإعجاب. الفنان التشكيلي دوشامب Duchamp يُسهم في مرحلةٍ مبكرة بعرض "مبولة" منتزعةٍ من محل أدوات مستعملة، يضع عليها توقيعه ويضع لها عنوان "نافورة"، ويصفق النقاد أيضاً. صموَل بيكيت Beckett لكي يفلت من ظل جيمس جويس، المحتفي بغنى اللغة، يحتفي هو بفقرِ اللغة وعجزها المطلق في سلسلة تداعيات روائية لا تهدف إلى معنى بعينه، فيطرب النقاد لتجسيد "العدم" هذا. ولك أن تتخيل ما تهدف إليه "مابعد الحداثة" حين تتعامل مع السينما والمسرح. الفيلسوف الفرنسي دريدا Derrida يحتفي بكل هذا ويُنظِّر له. ومن حسن الحظ أن تنظيره يُنجَز في لغة غير موصلة، لأن ما من لغة موصلة كما يعتقد، فيُترك لقراء لا يُدفئ رؤوسَهم فضولٌ للمعرفة، ولا قلوبَهم ظمأٌ للعاطفة، ولا ذائقتَهم توقٌ للجمال. لكنه لا يُعدم جمهوراً من المحتفين يهللون داخل عمى الكلمات.
وكما تأثر ستينيو العالم العربي بستينيي الغرب، ارتدو حلةَ مابعد حداثتهم فوجدوها مناسبة جداً لأن تستر عورة عقدة النقص المتأصلة، أو "الذات الجريحة" كما يسميها المفكر الإيراني شايغان. ولك أن تتخيل ما الذي يمكن أن تُحدثه قناعات "ذهنية" محضة بضرورة التخلي عن العقل كدليل معرفة، واحتقار العلم ومسعى الاكتشاف لدى الانسان، واستلاب المعنى من أية كلمة، واستبدال "العدم" بالحياة، ولجم الذائقة والعاطفة عن أن تروي ظمأها من إرث فني امتد لمئات السنين من خبرة الانسان الحديثة؛ لك أن تتخيل ما الذي يمكن أن تُحدثه قناعات "ذهنية" كهذه في أمة عربية تعاني أصلاً من ثقافة تمتص الخرافةُ فيها رحيقَ العقل، وتنتهك الجهالةُ جلالَ العلم، واللامعنى حرمةَ الكلمة، والموتُ المجان قوةَ الحياة، والسوقيةُ سلامةَ الذائقة والعاطفة؟
ولكن لـ "مابعد الحداثة" جذور وفروع، سأحاولها في هذه العجالة.
-2-
يُخطئ من يفهم "مابعد الحداثة" على أنها مرحلةٌ، حلّت على حياة وثقافة الغرب، بعد انتهاء مرحلة "الحداثة"، التي امتدت منذ القرن السابع عشر. إنها في حقيقتها حركة، تيار أو أيديولوجيا، جاءت مناهضة ومعادية لـ "الحداثة". وهذه الحركة مقتصرة على تجمعات، ومُمثَّلة في عدد من الكتاب، جامعيين على الأغلب، لعلَّ أبرزهم وأكثرهم تأثيراً: فوكو Foucault ، دريداDerrida ، ليوتار Lyotard، وهم فرنسيون جميعاً، يُضاف لهم الأمريكي رورتي Rorty. وبالرغم من أن هذا التيار بدأ بصورة فعلية منذ الستينيات، إلا أن أفكاره تعتمد جذوراً مغذية تعود إلى مطلع الحداثة ذاتها.
سأحاول اعتماد خط بياني إيضاحي، هيكلي دون لحم ودم، يبدأ من تلك الجذور، من أسس الحداثة في القرن السابع عشر، على يد كل من بيْكون Bacon (توفي 1626)، ديكارت Descartes(1650)، ولوك Locke (1704). وفيما بعد على يد كانت Kant (1804) في عصر التنوير. كان الإيمانُ بالعقل كسبيل للمعرفة هو منارةُ الهداية، ولذا سمي عصر الحداثة بعصر العقل، ومنه تتالت أركان الحداثة الأخرى: حين يكون العقلُ قدوةَ الفرد، فالفردية أصبحت عمادَ الأخلاق. حين يكون العقل قدوةً لفهم الطبيعة وسبيلاً للمعرفة، فهذا يقود إلى الايمان بالعلم. واحترام قدر الفرد قاد سياسياً إلى الديمقراطية الليبرالية، معها تداعت ظاهرة الاضطهاد العنصري والذكوري. وهذه الفردية في الاقتصاد قادت إلى السوق الحر، ومع الانتصار للعلم قامت الثورةُ الصناعية، وتقدمت الطبابة والصيدلة. الايمان بالعقل، بالطبيعة، بالانسان، بالعلم شكل أركان الحداثة الصلبة التي يقطف الانسان ثمارها الغزيرة التنوع اليوم.
ولكن شرخاً فلسفياً حدث، في التعامل مع العقل كسبيل موثوق للمعرفة. لقد سعى التنويريون إلى تعزيز حصيلة منجزاتهم العقلية بتصور جديد لله، بعيد عن إله الأديان التوحيدية المعروفة. أصبح الخالقُ لديهم قوة تجريدية، رياضية، معزولة عن الانسان، ومُدركة بالعقل. هذه النزعة العقلانية اتسعت في انكلترا وفرنسا، ولكن ردود الفعل المضادة اتسعت في ألمانيا، حين فزع الفلاسفةُ فيها من تجريد الخالق، وترك الانسان عارياً عن المعيار التقليدي المُعتمد لكل قيمه الروحية. ولقد كان الفيلسوف "كانت" أبرزَ هؤلاء الفزِعين، وأكثرهم تأثيراً في هجومه على العقل وقدراته. ولكنه، هو المنتصر للعقل بين التنوريين، تشكك بقدرة العقل على المعرفة في حقل واحد فقط، هو حقل الإلهيات وما وراء الطبيعة، حقل الواقع الحقيقي Reality. بذلك انتزع الدين من حقل المعرفة العقلية، وأدخله في حقل الإيمان. ولقد فتح بذلك الطريق للنزعة الميتافيزيقية المثالية واللاعقلانية في القرن التاسع عشر.
في تاريخ الفلسفة مثّل "كانت" تحولاً أساسياً من "الموضوعية" كمعيار إلى "الذاتية" كمعيار... ومعه سقط الواقع الحقيقي reality، الذي يقع خارج قدراتنا المدرِكة، بصورة تكاد تكون تامة.
إن قصة الفلسفة بعد الفيلسوف "كانت" أصبحت قصة الفلسفة الألمانية. الفجوة التي اتسعت بتأثيره بين الذات والموضوع، بين العقل والواقع الحقيقي، تواصلت بحيث أتاحت المجال لميتافيزيقيا التكهنات وللنزعات اللاعقلانية في حقل المعرفة في القرن التاسع عشر، من هَيْغل، شوبنهاور، كيركغارد، نيتشة.. إلى هايدغر. وعبر هؤلاء جاءت مجموعة المابعد حداثيين الأوربيين، فوكو، دريدا، ليوتار..، التي أسست للمذهب اللاعقلاني في القرن العشرين. إنها تنكر بأننا نستطيع أن نتحدث بصورة ذات معنى عن واقع موجود بصورة مستقلة عن عقولنا. وهي نسبية إذا لم تكن تشككية في نظرية المعرفة، رافضة للعقل كأداة بحث عن معرفة موضوعية، وبدل ذلك تُعزز هي من شأن العاطفة والمشاعر (هايدغر). وهي مضادة للفردية، تحصر المعرفة بحدود القوة الاجتماعية (فوكو)، وهي ناشطة في حقل علم الأخلاق والسياسة، ومع علم الجمال تحول اللغة عبر التفكيك إلى وسيلة لعب (دريدا). أما في التوجه السياسي فهي يسارية، وبتطرف لا يقرب المساعي التي تتعامل مع العقل، الكياسة، التسامح التي ميزت مبادئ الحداثة. إنها النقلة التي تستحق منا وقفة خاصة، لنرى دون منظور مكبر كم هو غربي هذا الخيط البياني الفلسفي الذي أوصل لمابعد الحداثة، التي يدعيها العديد من المثقفين العرب، ونقاد الأدب العرب.
-3-
تيارُ ما بعد الحداثة جاء القرن العشرين على أثر حلقات متواصلة، ظلت ألمانيا مركزها الفلسفي بالرغم من توسعها الأوربي، ثم الأمريكي. كان الفيلسوف هايدغر هو بوابةُ النزعة اللاعقلانية المُعتمَدة: رأى العقلَ ذاتياً وعاجزاً عن بلوغ حقائق الواقع. رأى عناصرَ الواقع، من كلمات ومفاهيم، عقباتٍ يجب إزالتها. واعتبر المشاعرَ الممرورة لدى الانسان، المتعلقةَ باليأس والروع مرشداً أعمق من العقل. واعتبر كلَّ الفلسفة الغربية من أفلاطون حتى ديكارت، خاصة في اعتمادها قانون اللاتناقض وثنائية الذات/ الموضوع، عدوّة يجب إنكارها. هذه العناصر سرعان ما توفّرتْ على علاقة جديدة، داخل المعترك السياسي، مع موجات اليسار التي نبتت جذورها في تربة فلسفية خصبة: من "جماعية" الفيلسوفين "روسو" و"كانت" المضادة للفردية، إلى نسبية التنوع الثقافي لدى "هيردر"، والتربية الوطنية لدى "فيختة"، وعبادة الدولة لدى "هيغل".
لدينا الآن موجة يسار فعالة. ولكن في ظل موجة أوسع وأعمق تأثيراً هي موجة الحداثة وأفكار التنويريين. الأولى تتحرك باتجاه الحلم الاشتراكي، وقد اتسعت في المانيا لتنتج حركةَ يمين تؤمن بالجماعية لا بالفردية، وبالسلطة المطلقةِ للدولة، وحركةً اشتراكية توزعت إلى اشتراكية وطنية يمينية وأخرى أممية يسارية. أما موجة الحداثة والتنويريين فقد أسست لمجرى الليبرالية، أو الرأسمالية (حرية الفرد، السلطة النسبية للدولة، حرية السوق، الثقة بالعلم والصناعة، وبالتالي بالازدهار..الخ.)
بعد حربيْ المانيا الطاحنتين، وبعد صعود الاشتراكية الوطنية والحزب النازي وانهيارهما، وانهيار اليمين جملةً، مُسحت هذه الموجة من الميدان تماماً، وفقدت مصداقيتها أخلاقياً وثقافياً. ولم تبق في ساحة المعترك السياسي، ذي الجذر الفلسفي، إلا الرأسمالية الليبرالية مقابل الاشتراكية اليسارية. وكما كانت للرأسمالية الليبرالية دولها، صارت للاشتراكية دولها أيضاً. ولقد أتاحت الحرب العالمية الثانية لجيوش الطرفيْن المنتصريْن اقتسامَ الغنيمة. وأصبحت للعالم الاشتراكي مهابةٌ بفعل الاتساع والقوة.
مع السنوات صارت المقارنة بين حال الطرفين هي معيار التنافس. مثقفو اليسار الغربي، ومعه اليسار العالمي، والذين لم تهدأ أناشيد حماساتهم المتفائلة، اضطروا إلى رفع إيهام النفس وإيهام الآخر درجةً جديدة. كانت الأخبار تردهم من العالم الاشتراكي دامية، فلا يصدقون، وإذا ما صدّقوا يتأوّلون. مع السنوات صارت الازدواجيةُ سمةً لهويتهم النفسية، والعنادُ وليدَ عمى البصيرة: نزعة الانتصار إلى المشاعر لا إلى العقل (كانت، كيركغارد..هايدغر) منحتهم شجاعةَ الإيمان بالعقيدة والثبات عليها، لا شجاعة العقل الذي يرى اتساع الفوارق بين فشل التجربة الاشتراكية (القمع، الفقر، الموت البطيء..إلى جانب الاعتراف من السلطة الاشتراكية بذلك/ خطاب خروتشيف بشأن جرائم ستالين..) ونجاح نقيضتها الليبرالية (الحرية، الغنى، الوفرة، الازدهار..). ثمة أمثلة لقوة التعارضات بين نظرية المابعد حداثيين وبين الحقيقة التاريخية: إنهم يرون الغرب عنصرياً بعمق، في حين انهى الغرب الرق. ويتهمونه بانه يتحيز للرجل على حساب المرأة بعمق، في حين أن المرأة في الغرب هي أول من حصل على حق الاقتراع في العالم، ويرون أن بلدان العالم الرأسمالي مجحفة بقسوة بحق فقرائها، في حين أن حالة فقراء الرأسمالية أفضل بكثير من حالة فقراء العالم.
في الخمسينيات دفعت هذه الخيبة اليسار إلى موجات إرهاب دموية في عموم الغرب الرأسمالي، ولكن السلطة الرأسمالية الليبرالية لم تكن لينة الجانب بدورها، فقامت أجهزتها البوليسية والعسكرية بدحر الإرهابيين، قتلت منهم من قتلت، وسجنت من سجنت، ودفعت البقية إلى الهرب والتخفي.
مع انهيار اليسار المتطرف والحركة الاشتراكية بصورة عامة، بحثت الموجةُ عن بديل فوجدته في تيار "مابعد الحداثة"، التي استبدلت السياسةَ نظريةً وتطبيقاً بنظرية المعرفة، لأنها رأت أن نظرية المعرفة هذه ليست أكثر من أداة للقوة والسلطة، وإن المنطق والعقل والموضوعية ليست إلا أقنعة. إن مابعد الحداثة هي نتاج تزاوج بين سياسة اليسار والشك العميق بنظرية المعرفة. من هذه الخلطة الغربية بامتياز برزت أربعة أسماء في الصدارة: فوكو، ليوتار، دريدا، ورورتي، ثم أحاطهم آخرون لا يقلون أهمية. ولقد كانت "الجامعة" معقلهم الحصين.
هل من مدخل خفي في هذه الخلطة الغربية بامتياز لمثقف عربي مابعد حداثي؟
-4-
إن الانشغالَ بالسياسة، نظريةً وفعلاً، والشكَّ بقدرة العقل على أن يعرف، قادتا إلى "مابعد الحداثة". ثم أن خيبةَ الحلم الاشتراكي، وخيبةَ النشاط النظري والفعلي لدحر الرأسمالية الليبرالية قادتا "مابعد الحداثة" إلى جعل اللغة مركزاً لنظرية المعرفة. وبقدر ما كان الوعي، واللغةُ ضمناً، قادراً على الإدراك وعلى الفعل لدى الحداثيين العقلانيين، كان مقتصراً على "الفعل"، ولا شأن له بـ "المعرفة" لدى مابعد الحداثيين اللاعقلانيين.
ولنقرّب الموقفَ من اللغة: بالنسبة للحداثيين، في اللغة ثمة وسيلة نسميها في العربية "الاستعارة"، أو القناع the mask بمصطلح نظرية المعرفة، تتضمن اعترافاً بأن الكلمات ليست مباشرة في الدلالة، قد تنطوي على نسيج ذي طيات عدة (دلالات عدة)، ولذا تتطلب تعرية القناعunmasking ، الذي يعني التفسير وملاحقة المعنى. هذه التعرية هي سبيلُ معرفةٍ للواقع. خلافاً لهذا يرى "المابعد حداثيون" أن التفسير لا يوصل للواقع الحقيقي، واللغة لا تتواصل إلا مع مزيد من اللغة، وتقاوم كل مسعىً خارجها، بتعبير دريدا. إنها داخلية، وذات مرجعية ذاتية، وما من شيء يقودها إلى خارجها. ولذا فما من معيار خارجها، يميز بين ما هو حرفي أو استعاري فيها. إن "التفكيكية" لذلك عملية غير متناهية، في الكشف عن تواصل الأقنعة. اللغة باختصار ليست لمعرفة العالم الذي نعيش فيه. ولك ان تتخيل حال المابعد حداثي، مع نظرية معرفة تقول إن اللغة غير موصلة، ومع عقل عاجز، ومع نظرية سياسية ترى دون لبس فشلَ الحلم الاشتراكي نظرية وتطبيقاً، مع أنهم لم يتركوا وسيلة لتحقيق هذا الحلم اليقيني، عبر فكرة التطور أو الثورة، عبر فكرة التثوير الصناعي أو الزراعي، عبر انتظار انهيار الرأسمالية الليبرالية من داخلها أو عبر الارهاب من خارجها. لابد أن أسلحته اللفظية أصبحت قادرة على التفجر، غضباً، يأساً واستياءً.
إن قراءة فوكو وحده كفيلة بملامسة هذه الوقفة على حافة الهاوية. فامّحاء النزعة الانسانية، وامحاء الذات، و"موت الانسان" هي أبرز تطلعاته (لك أن تراجع كتاباً للمغربي عبد الرزاق الدوَاي: "موت الانسان" لدى هايدجر، ليفي ستروس وفوكو). و"موت الانسان" ليس إلا دعوة تشبه الخاتمة من سلسلة دعوات لميتات لم تهدأ في تطلعات المابعد حداثيين: من"موت الله" (نيتشة)، موت المؤلف (رولان بارت)، موت الفن (مبولة دوشامب)، موت الشعر (أدورنو)، نسف دور الأوبرا (الفرنسي Boulez)، وموت الرواية (الأمريكي Sukenick).. ويبدو أن هذه الميتات لم تترك إلا النزر اليسير من الإماتات بين يدي المابعد حداثيين العرب، حتى أن الكاتب السعودي الغذامي تعجل الأمر فأعلن في مقدمة كتابه "النقد الثقافي" أنه أخذ طائرة إلى مؤتمر في تونس ليعلن من فوق منبره "موت النقد الأدبي".
طبعاً، هذه الخيبات التاريخية المتلاحقة لدى شريحة من المثقفين الغربيين، والتي انتهت بهم إلى إعلان "موت الانسان"، لم تمس تاريخياً المثقفَ العربي من قريب أو بعيد. ولكن شريحة منهم، منذ الستينيات، استروحت قطفَ آخر ثمارها، فأعادت الدعوات العدمية الغربية على لسان عربي فصيح فبدت مثيرة، خاصة داخل أروقة الجامعة المنهارة أصلاً، وداخل أوساط أدبية خرجت من رحم صحافة الإعلام الرسمي الرخيصة، وفي تربة عقل يباب، وروح هرستها الأوهام التي فرضتها السلطات القمعية والأحزاب القمعية والشارع القمعي، ولغة فقيرة أحاطتها بالرعاية دعواتُ "استحالة الدلالة" فأفرغتها كلياً من المعنى والحياة معاً... حتى أصبح المشهد "ظاهرة صوتية" (التعبير للمفكر السعودي القصيمي) ببلاغة مصوتة، وفراغ رأس تعبث فيه الريح.
لقد أتقنت هذه الشريحةُ القمع (أسوة بالمابعد حداثيين الغربيين) داخل الجامعة، فلن يفلت طالبٌ من "التفكيك" و"البنية" و"النسق"..، واستحوذت على كل وسائل النشر والإعلام (صحف، مجلات، دور نشر، إذاعة وتلفزيون..) فمن يجرؤ، منذ الستينيات، على مابعد حداثتها، فيكتب في لغة عربية سليمة، جميلة وذات معنى؟
العرضُ السريع الذي قدمتُه هيكلٌ عظمي، كما أشرت في أول الحديث، ومن رغب بتزويده بالدم واللحم فليرجع إلى كتاب بالغ الأهمية للبروفسور الأمريكي Stephenn Hicks بعنوان Explaining Postmodernism.