هذه العبارة وردت في رواية هنري دي مونترلان "رحمة للنساء". وهي واحدة من رباعيته: الفتيات رحمة للنساءشيطان الخير الموبؤاتقالها "كوستال" بطل الرواية وهو يصغي لادعاءات واكاذيب عجوز مريض. المسألة، أن بعض الناس لا يعرف كيف يكون صادقاً، لا مع نفسه ولا مع ال
هذه العبارة وردت في رواية هنري دي مونترلان "رحمة للنساء". وهي واحدة من رباعيته:
الفتيات
رحمة للنساء
شيطان الخير
الموبؤات
قالها "كوستال" بطل الرواية وهو يصغي لادعاءات واكاذيب عجوز مريض. المسألة، أن بعض الناس لا يعرف كيف يكون صادقاً، لا مع نفسه ولا مع الناس. تجد هؤلاء في الأوساط كلها. أما الوسط الأدبي فهو وسط التعابير والادعاءات.
وعلى عزلتي، أحس من بعيد، أو في مناسبات القرب والمجالسة، بما يُفزع أو حتى بما يُقرف من تبجحات وأكاذيب. كم مفرحٌ مريح من ينصرف لنفسه وكتاباته ويعمل لثقافته هو وبضميره الاجتماعي. لغط لا ينقطع: هذه عظيم وهذا لا شيء. هذا مغبون مظلوم نقدياً وذاك اكبر من حجمه. فلان كان شاعراً عظيماً والآن ليس شاعراً! هو مزيج من الروح الثأري والصَغَر الداخلي والتلذذ بادعاء الفهم. أو هما الغيرة والكراهة يوزعهما وأحدهم بدلاً من أن يوزع اللطف والاحترام.
العالم سوق كبير فيه ما يعجبنا ومالا يعجبنا. نهتم عادةً بما نحتاج إليه وبما يرضينا. كذا هي المكتبات فيها كتبٌ مختلفة المستويات والموضوعات. إقرأْ الكاتب الذي ترتاح له ولا تشتم الآخر، فغيرك يرتاح لهُ. رأيك وحدك لا يصلح لأن يكون حكماً حاسماً على أحد. الثقافات مختلفة متباينة ووجهات النظر ليست واحدة والمدارس عادةً تتجدد. والمدارس الادبية القديمة مثل قباب الأولياء، نزورها!
وإذا افترضنا الخير ومحبة الأدب فنحن، أيٌ منا لا يعرف كيف يكتب ذلك الكاتب او ذلك الشاعر وما يسعى اليه وما هي اجتهاداته. هو له ورشة عمله وهو مثقف في موضوعه. وإذا لم يكن مثقفاً فهو مبتدئ لا يصح التعجل في إدانته.
مثلاً، لا أظن أحداً يعرف لماذا اكتبُ مرةً شعراً منظوماً ومرةً نثراً ولماذا باستعارية عالية مرةً ومرةً اسمح للمباشرة قليلاً. لا أحد يعرف، مثلاً، لماذا كتبتُ "الحياة والحب فيها" صفحات تجمع بين الشعر والنثر، نشرتها مسلسلة في المدى. هم يقرأون أوراقاً، لكني أردتُ قاصداً أحياء الأمل وجمال الحياة في نفوس الناس بعدما رأيت من انطفاء حيويةٍ عام وسيادة الشعور باللا معنى وباليأس الذي يدمر الشعوب ويطفئ جذوة الحياة فيها. نحن لنا مهمات فنية، لكن لنا مسؤوليات أخلاقية أيضاً! نعم، لتكن القصيدة فناً ولا تسخِّرها. لكن هذا لايمنع من كتابات أخرى فيها نفع للناس وفيها ممارسة حرة . للكُتّاب اجتهاداتهم. من قال لك أن كل ما اكتبه، أو ما يكتبهُ شاعر آخر، قصائد ؟ بعضها كتابات بأسلوب شعري توهمك انها قصائد بسبب الشعرية فيها ولأنها مكتوبة بسطور متباينة الأطوال. صديق لي مرةً رأى مقدمةً لأحد كتبي الشعرية قصيدةً وتحدث عنها قصيدةً. هذا ليس سوءاً هذا مصدر فرح إن نثرك يقرب من الشعر.
تحدثت عن نفسي اردت مثلاً واضحاً. كلٌ في ورشته يعمل وكلٌ له رؤيته وآفاقه. لكي تحكم على كاتب إقرأْ أعماله كلها أو جُلّها. فما في هذا الكتاب من كتبه هو غير ما في كتاب آخر. هي حيوية الناس وانشغالاتهم. كفّوا عن التعميم. التعميم عادةً لأوامر إدارية أو قرارات دولة. لكل كاتب جاد فلسفته في الكتابة. لا تكونوا صِبيةَ انتقاصٍ وشتائم: عبد الوهاب ليس شاعراً. أدونيس أكذوبة. بدر نصف ونصف. فلان. علان ... ولا يسلم منهم إلا من يخشونه أو يسترضونه. هذا مؤسف ومعيب ولا يدل أبداً على نضج. ثم لماذا تشغل نفسك بهذا وذاك ؟ هم ناس قدموا ما استطاعوا ولو تمكنوا من الافضل لما تأخروا عنه. الأمل بك. عوّضْ عن النقص وأكمل التطور نحن ننظر أليك فلا تخيب أملنا ولا تجعلنا ننظر طويلاً وإلى فراغ. مستقبل البلد الثقافي على كتفيك، هل تستطيع النهوض به ؟ حسناً وفقك الله وحفظك من كل شر. لكني أقول: الادعياء المتبجحون المتعالمون، لن يكونوا ! من سيكون هو من يعمل جاداً وبصمت وفي المكتبة لا المقهى !
جميعنا لنا ملاحظات وآراء فيما نقرأ، ولكن نشير لها بتواضع من يريد أن يفهم لا من يهرج ويسيء.
سحبنا الكلام الى أمور الأدب وما اردناه أوسع من هذا. فهذا الكذب، هذه الادعاءات، هذا التقليل من الشأن واحدٌ من أمراض البلد المزمنة. مرض شائع في البلدان المتخلفة وحيث البطالة وضيق الأفق ومعهما قلة الفرص. فكلٌ يريد أن يزيح مماثله وشريكه في المهنة أو في الحقل. فمثلاً، وعلى نطاق العمل العام، لا يتضرر حزبٌ ما من الأخلاص والعمل الوطنيين لحزب آخر. لكن يحدث التضاد إن كان الهدف هو الكسب أو الهيمنة أو الانفراد أو التوجه بدافع آخر مثل اختلاف الهدف وإن تشابهت الشعارات. كشف العيوب وتوالي الشتائم والاتهامات وراءها تقاطع المصالح. سياسيون، أساتذة أدباء..، يقضون أعمارهم يكذبون على أنفسهم وعلى الناس. تصحب ذلك ادعاءات، وشايات، انتقاصات ومحاولات دائمة للتقليل من شأن الآخرين العاملين بشغف وبصمت. امثال هؤلاء الكذبة والادعياء يظلون كذلك حتى تخمد قواهم ويموتون مسمومين بكراهتهم للناس. "كوستال"، بطل هنري دي مونترلان، قال عن عجوز مريض من هؤلاء: "يموت بعد شهر... ويكذب!"
في الأجواء الادبية، الموبوءة غالباً، كما هي الاجواء الاكاديمية، افراد يشعرون بلا أهمية، بلا أحقية غيرهم بالاحترام والتميز. وهنا لا يتجاوزون أولئك بالعمل الجاد أو بالعمل الافضل، ولكن بإيقاف أولئك المجتهدين عن العمل أو إيدائهم بالكلام!
علينا الاقرار بأن مواهب جيدة لا تجد طريقها لتزدهر وأن الحياة العملية غير منصفة دائماً. وأنا مع هؤلاء. لكن نحن لا نمتلك طريقةً ننصف بها الجميع ونعطي كل ذي حق حقه. ما حصل هذا في التاريخ كله ... هذا لا يعني أن كل شكّاء نقّادةٍ كثير الهجو، على حق وأنه افضل مما نرى ويرى الناس. ولنعترف أيضاً بأن لا طريقة لنا لنقنعه بأنه على خطأ في أحكامه، وإن احترام جهود الناس واجبٌ ثقافي لأنهم يسهمون مخلصين في البناء، كلٌ وطاقته. ما أعرفه مما مر بنا، ومما مارسناه ونحن ناشؤون في التقليل من شأن المتقدمين علينا، إن الزمن هو الذي يُنضج الثمار وما علينا الا مباركة الثمار الخضر حتى تنضج، فبينها ثمار نادرة ينتظرها المستقبل وبأمثالها وأمثال اصحابها تتقدم الحياة. أن كل عملنا الأدبي والثقافي هو ليأتي من هو افضل منا. ولتأتي أيام افضل من أيامنا. ومستقبل خيرٌ وأغنى من حاضرنا.
إخوتي، قللوا الكلام وزيدوا ساعات العمل الجاد. وابتداءً من اليوم اغتسلوا من كراهاتكم وادعاءاتكم لتنجزوا عملاً مهماً واضحاً يفرحنا. إذا تحقق هذا، فأنا أوّل من سيقوم له احتراماً!