TOP

جريدة المدى > عام > سحرية المكان وقداسته

سحرية المكان وقداسته

نشر في: 15 أغسطس, 2017: 12:01 ص

يستغرق المقدس اهتماماً جوهرياً وبالغ الحساسية، لأنه هو السحري بالعتبات المبكرة في فجر الحضارة الإنسانية، مثلما هو الديني الذي دائماً ما يتخذ الظواهر الموجودة في الحياة والطبيعة مثل الشمس، القمر، الرياح ، البرق / الرعد / ....الخ والإشارة لوجود اله واح

يستغرق المقدس اهتماماً جوهرياً وبالغ الحساسية، لأنه هو السحري بالعتبات المبكرة في فجر الحضارة الإنسانية، مثلما هو الديني الذي دائماً ما يتخذ الظواهر الموجودة في الحياة والطبيعة مثل الشمس، القمر، الرياح ، البرق / الرعد / ....الخ والإشارة لوجود اله واحد في ابتداء الحضارة أمر ضروري، وهو اله غير متماثل بين الجماعات والقبائل، فكل منها يتخذ ما يعتقد قادراً على توفير الحماية له، ويمنحه الأمان والسلام وهكذا تعدد الإلهة وكثـر عددها. وكل اله تقترحه الجماعة المعتقدة به، طقوسه الدينية غير الثابتة، بل هي متحركة باستمرار. وهكذا تتطور العلاقة مع المقدس باستمرار.

ذهب العراقي القديم نحو المقدس، وتعامل معه بتسامٍ لا مثيل له وجعل له أهم المدن المعروفة وذات الحضور المهين. وعلى سبيل المثال، كانت بابل، مدينة الإله مردوخ، المقدس القومي للإمبراطورية البابلية، وتمثل أيضاً سرة العالم، مثل المدن الأخرى. واعتقد بأن الإشارة التوراتية / سفر ارميا 51:7 والتي اعتمد عليها د فالح مهدي والتي تضمنت: بابل كأس ذهب بيد الرب ، تسكر كل الأرض، من خمرها شربت الشعوب، من اجل ذلك جنت الشعوب "هذا نص مراوغ متماثلاً مع كل النصوص التوراتية المقنعة بمسكوتات غير معلن عنها بشكل صريح ولعل الإشارة لمدينة بابل، لا تعني القداسة فقط والأهمية التي تتمتع . بها لدى اليهود وإنما هي حلمهم في الحاضر ـ آنذاك ـ حيث كانوا أسرى فيها وعاشوا حياة لائقة وكريمة وفرت لهم فضاء للعمل وامتلاك ما هو غير متوقع من الأراضي والمقاطعات، من هنا كانت بابل حلم اليهود الأبدي وسيظل الحنين لها كامناً ولن يخفت أو يتلاشى، هي سرة العالم وحلم دولتهم عريض وممتد من النيل الى الفرات، لذا اعتقد بأن ملاحظة د . فالح مهدي غير دقيقة .
والنص التوراتي يخفي العديد من الأحلام السياسية والأقنعة الدينية لأنهم ـ اليهود ـ لم يجدوا إلهاً لهم مماثلاً للإله مردوخ الذي تجاوز جغرافية بابل الداخلية وامتد نحو جغرافيات خارجية منها سوريا / فلسطين / مصر .
ظهور هذه الطاقة في المكان المقدس / بابل، لم يكن سببها وجود مرودخ إلها قومياً، بل لأنه استطاع إخضاع كبار الإلهة السومرية والاكدية وحاز دعمهم له، بحيث تأهل منتصراً على الإلهة تيامت . وتجسدت فيه عناصر لم يعرفها إله شاب قبله، ومثال ذلك قاد بابل نحو مجد إمبراطوري عظيم وذهب باتجاه التغريد، كسابقة لم تحصل من قبل . لذا حقق حضوراً متعالياً، وكشف عن سلطته الكبرى وسعيه للتجديد والحداثة في مبادرة غير مسبوقة قبل ذلك . لذا علينا أن نسجل ريادة بابل، المدينة العظيمة المقدسة في حداثتها الجديدة . فالتغريد لم يقلص قداسة مردوخ ، ولم يؤثر على بابل / كسرة للعالم كله. واهم أشارة ذهب إليها د . فالح مهدي هي التآزر بين الدين وبابل وكلاهما معاً باتجاه الأسطورة، لأن الدين لن يكون ولا يقوى على الاستمرار والديمومة إذا لم يكن قادراً على إنتاج أساطيره وعقائده وطقوسه وهذا ما افلح منه مردوخ (( فليست هناك عقيدة دون أسطورة . فالأساطير التي ينظر لها بسلبية في الثقافة الإسلامية قديماً وحديثاً، هي شكل من أشكال العقل، وتمثل أولى محاولات الإنسان، قبل التفلسف لتفسير الكون. ليس هذا فحسب، بل لإعطاء معنى لوجوده. فهو لم يقف مكتوف الأيدي إنما حاول أن يبحث عن سر الحياة، ومن أين جاء الإنسان والى اين سيذهب ؟ / فالح مهدي / الخضوع السني / الاحباط الشيعي / ص48//
وبالإمكان الذهاب الى عدد وفير جداً من المصادر الثقافية التي درست تأثيرات الحضارة العراقية، السومرية والأكديةـ على التوراة من اجل الاطلاع على ما هو عميق الحضور بالنسبة لقدرات العقل العراقي باتجاه التأسيس المبكر في تاريخ حضارات الشرق .
" لم يخرج اليهود عن تلك الثقافة، فبناء معبد سليمان، كما ورد في العهد القديم من أن الله يسكن فوق الأرض ..... ومع أن ذلك المعبد الذي بناه سليمان هدّم مرتين، معبد اورشليم الذي بني فوق تل صهيون، بيد انه بقي من الناحية الرمزية، المركز الذي يتلقى فيه المؤمنون من اليهود مع الرب، فنجد في العهد القديم تلك العبارة "اسمي سيكون هنا" هذا المقطع من سفر الملوك يؤكد تجاوز اليهود لمفهوم التابوت البدائي، ذاك الذي يمثل حالة التنقل وعدم الاستقرار / فالح مهدي / ن. م / ص 51//
يبدو لي بأن التباين بيني والصديق د. فالح مهدي أكثر تمظهراً في موقفه من النصوص التوراتية، وما له علاقة بوجود اليهود في الشرق ولابد لي من الإشارة الى أن الإلهة في العراق القديم يعيشون في السماء، لكن الإله بمستطاعه النزول الى الأرض والحياة مؤقتاً في معبده الموجود في إحدى المدن الشهيرة . أما الإله اليهودي يهوه ، فلم يعرف غير التواجد فوق الأرض ، وكل الأسفار التوراتية أشارت لذلك وأكدت على ذلك، لذا هو إله عرف الشتات طويلاً وعاش وتحلا في سيناء أكثر من أربعين عاماً، من هنا كان تابوت العهد محمولاً لفترة طويلة وكان يأخذ استراحته وسط خيمة في سيناء / وللاطلاع أكثر يراجع ناجح المعموري / الأصول المصرية لتابوت العهد / دار تموز / دمشق .وذهاب د. فالح الى أن سليمان بنى معبداً في اورشليم لينهي فترة شتات يهوه الطويلة، بناءً على ما قاله الملك داود لولده سليمان، لكن الحقائق المادية لم تشر لذلك أو تؤكد، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها اليهود، لذا أنا اعتقد بأن هيكل سليمان إحدى الأساطير اليهودية التي حاولوا بها ومن خلالها جعل إلههم متساوياً مع الإلهة في الشرق وهذا لن يكون أبداً وصدرت كتب عديدة عن هيكل سليمان، دحضت أسطورته التوراتية وما ذكرته التوراة من تفاصيل المواد الأولية وكل لواحق العمل المعماري، لا تعدوا أن تكون غير أوهام. لكني لا استطيع نفي استفادة اليهود من تفاصيل الديانات الشرقية، السومرية، البابلية، الآشورية، السورية / كنعان / مصر، وحاولوا النقل الكامل ومحاولة التذويب لإنكار مساعيهم للتماثل مع الآخر الذي عاشوا معه وجواره كثيراً .
وعلينا أن نكون أكثر دقة في التعامل مع النصوص التوراتية ويجب أن تقرأ باعتبارها دقة في التعامل مع النصوص التوراتية ويجب أن تقرأ باعتبارها نصوصاً رافدينية لم تستطع البنية الذهنية اليهودية مقاومة التأثر بها والاستفادة منها، وأنا اعتقد بأن مثل هذا الحوار حق مشروع لكل الديانات المرنة، التي تكونت وهي تحمل حير التجاور والقبول بالآخر، حتى تعطيه وتمنحه ما تريد وهذا دليل على حيوية المستعد للتجاور مع المتأثر.
واستطيع الإشارة لعدد من كتب التي توفر الإجابات الجوهرية على مثل هذه الأسئلة ومنها : الأسطورة والتوراة / المؤسسة العربية وأقنعة التوراة + التوراة السياسي + موسى وأساطير الشرق ـ الدار الأهلية ، عمان .
اكتفي للأستاذ د. فالح مهدي بالإشارة لعدد من المدن المقدسة مثل بابل وأوروك ونينوى وأنا اعرف بشكل جيد معرفته بالمدن الأخرى التي لا تقل أهمية عن التي ذكرها مثل : أور / لكش / نيبور / نفر / اريدو / وكلها مراكز دينية، تمتعت بقداسة كبرى اقتراناً بالإلهة العظام التي اختارت أماكنها بذكاء وعناية تامة. وبالإمكان الذهاب ابعد قليلاً والتذكير بأن هذه المدن المقدسة هي مراكز حضارية وثقافية وحاضنات علمية، ازدهرت فيها الحياة وتطورت القدرات العلمية وتحاورت مع غيرها من نتاجات الآخر. لأن العقل العراقي أدرك بوقت مبكر بأن الحضارة ملك للجميع وهي نتاج للبشر ومن حقهم تداولها، والعمل على تطويرها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram