تصورٌ خطأ يرِدُ لفكر بعضنا بأننا حين نقول "إيقاع" فكأننا ننأى عن قصيدة النثر الشائعة هذه الأيام ونتعاطف مع الشعر الموزون. أود القول لمن يرى هذا الرأي : يا سيدي تعد دراسات العروض الشعرية أُولى أو أقدم الدراسات اللغوية. ذلك لأن النظام الشعري يعتمد على
تصورٌ خطأ يرِدُ لفكر بعضنا بأننا حين نقول "إيقاع" فكأننا ننأى عن قصيدة النثر الشائعة هذه الأيام ونتعاطف مع الشعر الموزون. أود القول لمن يرى هذا الرأي : يا سيدي تعد دراسات العروض الشعرية أُولى أو أقدم الدراسات اللغوية. ذلك لأن النظام الشعري يعتمد على متابعة التشديد stress على "الصائت" يعقبه الخفيف أو الصامت. وهذا يعني أننا نتحدث عن الفونيمات التي تسمى فوق السطرية. وهذه واحدة مهمة، بل أساسية من دراسات ظواهر اللغة والتي تسمى بالدراسات الإيقاعية وتشمل النبر ودرجات التنغيم. هنا صار العروض الشعري إيقاعاً، والإيقاع لا يقتصر على الشعر ولكنه اساسي في رسم الجمال الأسلوبي، وفاعل بلاغي مهم، في الكتابات الأدبية شعراً ونثراً.
أعتدتُ في كل كتاباتي في هذا الموضوع على التنبيه لا على المفاضلة. وأن كانت المفاضلة عادةً تتضمن التنبيه. فأنا أنبّه إلى ما يراه بعض من مجتهدينا النقديين بأننا الآن بصدد القصيدة لا عروضها وأننا في زمن لا يشترط للشعر اعاريض.
أقول هنا المنزَلق أو الخطأ في فهم المسألة وفي التقدير. فالجملة النثرية، كما أشرنا، تصنع رشاقتها وجمالها اللفظي الموسيقي من توزيع فونيماتها. جمال الأسلوبية فيها، جمال التركيب اللغوي، سببهُ الأساس التوزيع الفونيمي، التوزيع الموسيقي، هو والمعنى يتعاونان على جمالية الأسلوب، سواءٌ جمال الكلمة مفردةً فيه أو جمال العبارة.. وقد انتبهت لهذا مبكراً أو نبهتني إليه قراءاتي ولا ادري..
اذكر أني في مربد 2012 ، في البصرة، قدمت ورقة نقدية حللت فيها "عروضيا" جملاً شعرية وجملاً نثرية. بعض الجمل الشعرية تسقط إذا كتبت نثراً حتى بما نراه شكلياً أفضل الصيغ. وبعض الجمل النثرية تفقد جمالها وترتبك اذا كتبت شعراً منظوماً verse . وأوضحت حينها أن جمال العبارة الشعرية والعبارة النثرية سببه الإيقاعات الأولى المنتظمة. الجملة أو العبارة النثرية تتوافر على إيقاعات ايضاً أو على تفاعيل، لكن غير ملتزمة بنظام ثابت متفق عليه كما في الشعر إذاً للجملة النثرية تفعيلاتها واختلاف هذه التفاعيل واختلاف أنظمتها يقرران موسيقاها. وهي موسيقى متغيرة باستمرار وبتغير التراكيب.
بدا الموضوع غريباً على القاعة غير متوقع وربما مستنكراً. "اين نحن من العروض والتفاعيل ونحن في زمن الحداثة، في زمن قصيدة النثر؟" هذا ما سمعته من أحدهم . هذا هو التسرع ولا رحابة الافق الثقافي أو هو عدم الانتباه الجاد لما وراء الكلام من ابعاد. حتى أن صديقاً يمارس النقد عقب وهو في مكانه .. "يا أخي أي عروض الآن وأية تفاعيل ... ؟ "
لم أرد عليه وأنا متوجه الى مكاني بعد قراءة الورقة. عرفتُ انه بعيد عن الموضوع أو اخذته واحدةٌ من محفزات الغيرة أو الرغبة في الاعتراض والتعالم. ناسياً أنني في درس لغوي أصلاً. مؤسفٌ اننا أحياناً نستهين بالموضوع البعيدين عنه.
ظهور التحليل البنائي "التوليدي" جسد بشكل واضح هذا النزوع العلمي في متابعة موسيقى اللغة أو إيقاعات التعبير. وصار منحاه مختلفاً عن منحى النقد الأدبي. فالأول يحلل ما هو موضوعي قابل للتحليل وعمله هنا في مجال اللغة. أما الثاني، النقد الأدبي، فهو يبحث عن القيم الجمالية في النص المكتوب. وكلٌ منهما اليوم حقل تخصص له ناسه ومناهجهم.
خلاصة ما أرى هي: ان ليس للشعر وحده كتابة عروضية، (وحين اقول شعر فأنا أعني المنظوم verse اما الشعر بعامة فهو poetry ) النثر ايضاً له كتابة عروضية او رسمٌ عروضي ولكنها هنا اعاريض حرة لا يضمها أو ينظمها نظام عمل. في النثر تأتي من بحور شتى وحسبما يرسمه الترتيب اللغوي. وهنا نتوصل الى ما ينفعنا في النقد الموضوعي – فهذه أكثر علمية من مصطلحات اخرى غير محددة الدلالة وليس لها صفة موضوعية مثل "الموسيقى الداخلية".. علينا أن نميز بين موسيقى القصيدة و "مزاج" القصيدة او اثرها النفسي. هذا موضوع آخر وعلينا تحاشي الخلط وتكرار ما أخطأ فيه من سبقونا.
نعم، الشعر العربي أسس نظاماً لتوزيع الإيقاعات عبر التفاعيل وحددها أساساً بمقاطع عروضية ثلاثة في كل شطر. لكن هذا ليس ملزماً للجميع وقد يمتد البيت الشعري الى ما شاء الشاعر ما دامت هي مسألة توزيع فونيمات صوتية، صوائت وصوامت، كما يقول العروضيون ومعهم النحويون.
واحدة من المربكات في التقويم الشعري، ونحن بصدد الإيقاع، هو تداخل السياقات النحوية. ولهذا اعتبارات تحدد الثناء على، أو النفور من، سلامة الجملة الشعرية بل ومن عموم العمل.
صرتُ الآن وبعد النظريات التي تسود درس اللغة، أرى أن طريقة السابقين في تعليم الشعر، طريقة متعبة في تعليم اللغة، بالتعويد على انماط او صيغ تعبيرية patterns عن طريق التكرار repetition . اذاً هي تعتمد على تكوين خبرة أو عادات لغوية. هذه الخبرة نحن اليوم نحللها ونعطيها صفات علمية. هم كانوا يحفظّون طلاب الشعر قصائد من اوزان مختلفة. بهذا يألف الطلبة انماط الإيقاعات أو الانماط التعبيرية في الشعر. يحسون بتوزيعها الموسيقي ويعتادون على مثله. وبهذه الطريقة في تعليم الشعر يعطون، بصورة تدريب تُعْتَمَد التكرار، درساً في التركيبات البنائية والانساق اللغوية في القصائد. وهذه الطريقة تعتمد اليوم عالمياً في تعليم المبتدئين اللغة والانشاء الأدبي. وذلك بأن يحفظوا ما يُدَرَّسون من مقطوعات هي نماذج من أدب الشعراء أو من أدب المنشئين الكبار.
بعد ذلك ليس مهماً أن تكتب الشعر بصيغة نظم verse أو تتمتع بحريتك في التنقل وفي اختيار الصيغ البنائية فتكتب شعراً poetry ان كان تفعيلةً وان كنت تتحرز من التوزيع المرسوم وتعتمد النثر بموسيقاه التي وصفناها وهو شعر poetry أيضاً. نحن في الحالين نريد القيم الجمالية التي اطلعَتها تلك الصيغ والانساق.
لم يحدث في الدراسات اللغوية ان تم الفصل بين الأسلوبيات والشعريات. والسبب هو استحالة فصل دراسة الشعر عن دراسة اللغة او فصل الشعر عن الأسلوب. الأسلوب هو المؤتمن على الشعرية. الشعرية لا تستقر خارج الأسلوب. هذا في الرسم ايضا. هذا في الموسيقى ايضا.
مرةً ، قيل للشاعر الانكليزي و. هـ. أودن: "أليس كتابة الشعر نثراً أسهل عليك من كتابته نظماً ؟ " أجاب : "وأين تكمن متعة الشاعر؟ أليست في التغلب على الصعوبة؟" وبهذا هو يعني أن متعة الشاعر الفنية هي في اللعب اللغوي الجميل، في تعديلات الصياغة وفي إعادة رسم الانساق في كتابة القصيدة. متعته في ايجاد الصياغة الاجمل، الافضل والمبهجة. ومعلوم هنا أن الجيد من الشعر ينتمي أيضاً للصياغات النحوية السليمة والحفاظ على الهارموني العام ونفي النشازات من الموسيقى ومن البناء. وهو هذا الجو المشترك الذي تزدهر فيه الجمالية الشعرية.
هنا نحتاج الى القول: ان للغة، مع مهمتها التعبيرية، الاخبارية، لها مهمة أخرى عند الشاعر أو المنشئ البياني. تلك هي العناية بالصياغة. اعني صياغة التعبير ونقلها من الاعتيادي الى ما يُمتِع إلى ما يُفرح أو يُدهِش بحمولته من المعاني المستجدة أو الانتباهات. هنا لا تظل اللغة إخبارية عادية. ثمة انتقال او تحول وراءه، او تحدده، الاستعارية او الرموز الدلالية المتواترة او الرمز الشامل او ذلك المتخفي ولا يقفز للضوء الا في آخر القصيدة فيفتح أفقاً آخر يُنهي الرحلةَ بالدهشة!