TOP

جريدة المدى > عام > العشق الافتراضي

العشق الافتراضي

نشر في: 27 أغسطس, 2017: 09:01 م

افترش البشر بساطاً واسعاً على سطح كرتهم الأرضية، وتمدد الجميع باسترخاء عليه، كل واحد منهم حر في بقعته، يقول ما يشاء ويسمع  أو يقرأ ما يشاء.. الفيسبوك وتوابعه بساطنا الواسع الذي طار بنا نحو فضاء حر، فضاء تقول فيه رأيك دون أن تفكر بالرقيب، الأسري

افترش البشر بساطاً واسعاً على سطح كرتهم الأرضية، وتمدد الجميع باسترخاء عليه، كل واحد منهم حر في بقعته، يقول ما يشاء ويسمع  أو يقرأ ما يشاء..
الفيسبوك وتوابعه بساطنا الواسع الذي طار بنا نحو فضاء حر، فضاء تقول فيه رأيك دون أن تفكر بالرقيب، الأسري أو المجتمعي أو السياسي، ويمكنك أيضاً أن تغير اسمك وصورتك، لكنك لن تستعير أراء أو مشاعر غيرك، بل ستكتب، بأمانة مع نفسك ومع الآخرين عن خصوصية احاسيسك وكيفية تحليلك لكل مايحيطك، بل أنه البقعة الحرة الوحيدة بهذا الكون التي تستطيع أن تعبر عن ذاتك ورغباتك دون وجل من رقيب، هنا ستقول مشاعر وافكار كما هي تنمو بداخلك ولا يهم إن كانت بأسمك أو أن انتحلت ألف اسم أو صورة مختلفة.
كثيرة هي الأسباب التي تجعل الكثير يضع صورة حسناء مغرية، أو  شاب وسيم يسلب لبَّ الشابات.. واختيار اسماء مثل، لعبة القدر، غدر الزمن، الشاب الحزين، الزهرة السوداء، العنب الأسود.. وهناك الكثير من الانتحالات وأكثرها رواجاً، انتحال الشباب أو الرجال اسم امرأة لكي يدخل بعلاقة مع امرأة يعرفها وقد لا يعرفها، وهنا يفهم جيداً المغزى وراء هذا التخفي، الذي قد ينكشف، أو يبقى مختفياً خلف خديعته.
الاختفاء خلف اسم ووجه يجعل حريتك أوسع في قول ما تريده من رأي أو مشاعر، وبسبب الضغط الاجتماعي الذي هو اكثر حرارة من بخار حلة الضغط،  فقد اختفت الكثير من الوجوه  خلف اسماء لا تنتمي لها، ولا لوم على هؤلاء، إن لم يتجاوزوا الحدود الأخلاقية في التعبير عن مكنونهم، لأن الكثير منهم يلتجأ الى هذا الاسلوب كي يدلي بما عنده دون خوف من أحد، وخاصة الأسرة..
على هذا البساط ولد العشق الافتراضي الذي قد يتحول الى عشق واقعي، وقد يبقى أسيراً بين قلوب العشاق الافتراضيين وأجهزتهم الالكترونية الموبايل أو (الآي باد) أو غيرها.
جمل وكلمات حب ملتهبة تتنقل عبر اثير الموجات وتختفي بين جنح الليل ووسائد العشق، لتتسلل خفية في أحلام بشر وعقول الكترونية لأجهزة مختلفة الأحجام، ومختلفة التأثير والتأثر..
لم اسمع طوال حياتي عبارات اعجاب وغزل قدر الذي سمعته عندما دخلت عالم الفيسبوك، رغم اني وضعت صورتي المقاربة لعمري الحالي، وليس قبل ثلاثين عاماً، كما يفعل الكثير، اضافة الى تاريخ ميلادي، ومع ذلك كتب لي شاب، عمره يقارب ثلث عمري، واضح اني قبلته بداية دخولي هذا العالم، عندما كنت لا أعرف ضوابط القبول والرفض. قال في رسالته على الخاص: (خالة انت حلوة.. واني أريد نصير اصدقاء.. ونيتي شريفة.. أريد الارتباط). أي رد يمكن أن يكتب لهذا (الصديق) الافتراضي؟ وأي عشق افتراضي يجعله يصارح (خالته) لتكون صديقته وفقاً لضوابط النية الشريفة والشريعة الدينية؟.
ما القيد الاجتماعي، أو الحرية المفترضة التي حصل عليها، هذا الشاب، من جهاز صغير يحمله الى أي مكان، ليقول كل ما يريد قوله، دون أن يسمع كلمة توبيخ، أو عقاب قد يصل للضرب، أو طرد من مدرسة، مثلاً؟. أي  حرمان جعل هذا الشاب يبوح بهذا الارتباط الخطير، دون أن يشعر بالحرج، أو حتى يفكر بعواقب هذا الطرح، رغم ايماني أن المشاعر بعمر معين غير خاضعة للرقابة وهي كالحصان غير المروّض..
ليس هذا ما أردت أن اتناوله، وإنما لغرابة ما مرّ بي، ذكرته هنا كحدث اعتراضي، ولتأكيد نموذج لخلفيتنا الاجتماعية التي يسودها قانون الفرض الاستبدادي، وتأثير تلك الخلفية على استخدامنا لمفردات وأجهزة العصر الحديث، التي منحتنا حرية بلا حدود دون نضال أو ثورات، أو حتى سن قوانين أو تشكيل منظمات مدنية لتدافع عن حريتنا. حصلنا  مجاناً ، ودون أي جهد يذكر، على حرية متربعة على طبق من ذهب، طبق الفيسبوك وباقي وسائل التواصل الاجتماعي.
إن الذي يستوقفني في هذه الحالات  العشقية الافتراضية، تلك التي تأخذ شكلها الجاد، حيث بدأت كلها افتراضياً وتنتهي، ليس القليل منها، بالارتباط الحقيقي - الواقعي، الذي تشكل بداية عبر الشبكة العنكبوتية لتلك الوسائل، ناقلة مشاعر العشاق الافتراضيين عبر القارات، ليصبحا ثنائياً لم تكن من صلة بينهما سوى الحديث المباشر بين شخصين، لا يعرف أحدهما الآخر، ولم يلتقيا، ولا يعرف اي منهما مصداقية الآخر، وهل ما يقوله أو يكتبه يمثله حقاً أو ادعاء. وعلى الرغم من شبحية وغموض الأجوبة لتلك الثوابت أو المفاصل التي تشكل شخصية كل منهما، نجد أن حالة العشق، وبمرور الوقت، قد بدأت  تتأجج وتنفتح الكاميرات كي يرى كل منهما الآخر، وتبدأ الحالة تتنقل تدريجياً من شكلها الافتراضي الى شكلها الواقعي. هنا يبدأ القلق ينمو،  وتتكور الاسئلة لتتدحرج ككرات أمام خطوات الانتقال من عالم مجهول ينحصر بشاشة صغيرة، الى عالم شاشته أوسع بكثير من تلك التعقيدات المربكة، أو الفهم السهل الذي سيفتح كل بوابات الوضوح لتجد في النهاية أجوبة اسئلتك السابقة، التي عبرها سيصبح كل طرف اكثر وضوحاً ودراية مما كان عليه داخل الشاشة الصغيرة.. لكن ما سيتوضح قد يؤدي الى تطور الحالة العشقية الى مرحلة متقدمة أخرى، أو قد يكتشف الاثنان، أو احدهما، انه كان أسير وهم كان صغيراً في شاشته، لكنه صار مهولاً عندما خرج الى الواقع الواسع والمتشعب، ودخل الطرفان في حاسبة النظام الاجتماعي الذي لا يقر بما تفرزه الشاشة الصغيرة (الموبايل) أو غيره، وكثيرة هي المآسي التي حصلت نتاج ذلك، ويعرف الكثير منا أن بعض الفتيات قتلن (غسلاً للعار) بسبب افتضاح أمرهن من قبل متربصين أسقطوهن في الوهم ثم مارسوا التهديد بفضحهن، شعوبنا ماهرة في تحويل ما هو ايجابي الى كارثي..
ما مدى قبولنا لحالة العشق هذه، صحيح أن الاختلاط في مجتمعاتنا محدود ومحظور جداً بين الجنسين، لكن مع ذلك فإن الارتباط الواقعي يتأسس على ثوابت وقيم متعارف عليها،  مثل المعرفة العائلية المباشرة وغير المباشرة، البحث أو إمكانية معرفة خلفية هذا الشخص بسبب التواجد المكاني، أو التعارف الأسري،  حيث يدرك ويعرف الطرفان أنهما في نفس الموقع جغرافياً، مما يسهل اللقاء الواقعي بينهما. أو على الاقل يتقصى كل منهما عن الآخر عبر المشتركات الاجتماعية بينهما. لكن هذا الأمر لا يتحقق في العلاقة الافتراضية إلا بعد المواجهة، والمواجهة هي مغامرة بحد ذاتها فمن يؤكد أن الذي كان خلف الشاشة الصغيرة في شبكته العنكبوتية، هو نفس الشخص الذي التقيناه أو سنلتقيه في الواقع، وهنا ينكشف الوهم وتسقط الأقنعة.
الغريب انه حتى الذين يمتلكون مساحة نسبية من الحرية، صاروا بشكل ما أسرى هذا النوع من العلاقات، حيث تبدأ العلاقة بقبول الصداقة، ثم رسائل متبادلة عن اهتمامات كل منهما، لتتدرج الى اعجاب وكلمات تحرك بحيرة العواطف الراكدة، وتنتقل تدريجياً من مرحلة الى أخرى، حتى تصل الى لغة الحب. هنا يتوقف الزمن، والقرار يكون بيد أحد الاطراف أن تلغى كل الرسائل أو يصبح هناك اتفاق ضمني ثم علني أن تنتقل العلاقة من الصداقة الافتراضية الى العشق الافتراضي، كيف يمكن لذلك أن يستمر وينمو بشكل طبيعي ما دامت الصورة ضبابية، غير مكتملة المعالم، فالعلاقة تعيش في جو هلامي، لا شكل محدداً لها، ولا تسميات وتوصيفات دقيقة يمكن  أن تشرح جوهر العلاقة..غالباً ما تبقى الأشياء غير المكتملة ضمن المجهول الذي يبقى خفياً وعصياً على الفهم الكامل له..
العشق الافتراضي حالة جديدة نعيشها، هل ستصبح هي السائدة والأخرى ستندثر، هل ستنظم الشبكة العنكبوتية علاقاتنا العشقية والاجتماعية، ونترك لها أن تقرر لنا؟ وهل سننتقل جميعاً خلف هذه الشاشة الصغيرة لنبحث عن الحب والصداقة ضمن جهاز صغير لا يفارقنا أبداً.؟. اسئلة إجاباتها رهن بوعي كل حالة وجديتها في التعامل مع تلك العلاقات الافتراضية بضمنها العشق، بصفته الحالة الأسمى في العلاقات الإنسانية..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البنك الدولي: 53 مليار دولار تكلفة إعمار غزة خلال 10 سنوات

ارتفاع أسعار صرف الدولار في الأسواق المحلية

منتخب الشباب يتأهل إلى ربع نهائي كأس آسيا

إيران: أي استهداف للمنشآت النووية يعني اشتعال المنطقة بأكملها

3 مباريات جديدة في دوري نجوم العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram