TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مأزق الشاعر المُتفضِّل

مأزق الشاعر المُتفضِّل

نشر في: 4 نوفمبر, 2012: 08:00 م

حين أُدعى أحياناً لمهرجان أو نشاط شعري، يحلو لي أن أراقب تعامل الشاعر العربي مع العاملين فيه، أو مع من يحيطون به جملةً. الجمهور، أو وسطاؤه. وأكثر ما تحلوا لي مراقبته هو النجم، أو الذي قارب أن يكون نجماً، أو الذي يتطلع إلى أن يكون نجماً. فنحن إذا فهمنا استجابته للدعوة على أنها قبول، حتى لو كان نسبياً، بشروط المهرجان الرسمي، الذي لا يهدف بالضرورة إلى أداء وإيصال رسالة الشعر الاستثنائية، لابد سنجد أي تصرف يطمع بتجاوز هذه الشروط معيباً، أو محرجاً.

هذه القاعدة في السلوك لن يعود لها معنى إذا فهمنا بوضوح طبيعة علاقة الشاعر العربي بالمجتمع، منذ مطلع الشعر العربي حتى اليوم. كان الشاعر العربي صوت العشيرة، ثم صوت الإسلام العشائري، ثم صوت العقيدة، والسلطة التي تمثل هذه العقيدة..الخ. أي أن مهمته الروحية، الفكرية، الجمالية مشوبة بمهمة الإعلامي على الدوام. وهي مشوبة حتى اليوم بمهمات قد تتخفى وراء قناع، أو تكون ظاهرة فوق القناع مباشرة: الشاعر الوطني، الشاعر القومي، الشاعر الأممي، الشاعر الإسلامي، شاعر الهجاء السياسي، شاعر التمرد، شاعر الحداثة..الخ.

    هذا الشاعر مرتبط بجمهوره ارتباط المتفضِّل. صوته الشعري، بمعنى ما، يواصل دوره الرسالي الذي يحتاجه الناس، حتى في تمرده، وطليعيته، مادام هذا التمرد وهذه الطليعية يعبران عن رسالة. وشاعر الرسالة فدائي، تكرم في التنازل عن ذاته لجمهوره بصورة معلنة. والتنازل عن الذات يعني تنازلاً عن الذات الشاعرة، وعن أولى متطلباتها، وهي العزلة. ولذلك يشعر بأنه في تنازله هذا متفضِّلٌ في قبول الدعوة، وفي القراءة على الجمهور. وهذا التفضّلُ يستدعي الكثير من الأفعال، وردود الأفعال التي يحلو لي مراقبتها.

    الشاعر المُتفضّل يرغب بأن يُشاع عنه بأنه بالغ الحساسية، كثير النرفزة، ذو ردود أفعال غير محسوبة. كنت أحياناً أشعر بأني أشبه بروائي يراقب بطلاً يليق برواية. فهو في كل مرحلة من اليوم مصحوب بخبر: رفض الدخول إلى مطعم الفندق لأن النادل قال له أن كأس الخمرة مع الطعام على حسابك الخاص. اعتكف في غرفته لأنه لم يتسلم كارت دعوة الوزير شخصياً. رفض القراءة لأن القاعة صغيرة. قرر السفر في اليوم الثاني لأن أحد موظفي المهرجان تحدث معه بخشونة. وله الحق في كل هذا، إذ كيف يُعامل شاعرٌ متفضِّل، أصبح نجماً بفعل تفضّله، بهذه الطريقة!

    هذا الشاعر تنازل لجمهوره عن أخطر عنصر شعري فيه، وهو ذاته. وعن أخطر متطلبات هذه الذات الشعرية وهي العزلة، وعن أخطر ثمار هذه العزلة وهي الزهد. فكيف لا يُعامل معاملة الشاعر المتفضّل؟

الشاعر المتفضّل هو بالضرورة الشاعر النجم، أو المتطلع لأن يكون، أو الذي قارب أن يكون، نجماً. ولعله يعرف مقدار تضحيته، إلا أنه يخفيها، ويجهد في إماتة جذورها داخل كيانه. إنه متفضّل في كتابة شعره، وفي نشره له، وفي استجابته للمهرجان، وفي قراءته للجمهور. وكأي متفضِّل لا بد أن يكون بالغ الحساسية فيما يتصل بمكانته، سريع النرفزة، وردود الأفعال.

    لا بد أن يقف في مقابل هذا الشاعر المتفضّل، شاعر آخر تبدو له هذه الرسالة، وهذه الحاجة بالغتي الغرابة. إنه يكتب الشعر لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب الشعر. وهو لا يتفضّل على أحد في هذه الاستجابة الداخلية الملحة. وكتابة الشعر لديه فعل اعترافي عن قصوره، وعن عجزه أمام الأسئلة المحيرة. فكيف يتفضّل على أحد بذلك! ولكنه من جانب آخر يجد مسرة عميقة حين يعرف أن روحاً ما كروحه قد وجدت في قصيدته سلواناً. اثنان في العزلة هو وقارؤه.ولا أحد منهما متفضّلٌ على الآخر. أو أن كلاً منهما متفضل على صاحبه بالتساوي. فاكتشاف قارئ لا يقل أهميةً عن اكتشاف شاعر. وإذا دعي لنشاط جماعي واستجاب، فليس لاختبار صلاحيته. الشاعر لا يأمن على قصيدته إلا حين تكون بين دفتي كتابه. وفي الخلوة بينها وبين قارئه تتقرر تلك الصلاحية. الشاعر لن يلتقي الشاعر النجم، حتى لو تحدثا عن الشعر حول مائدة مستديرة واحدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

صحيفة عبرية: "إسرائيل" وأميركا يخشوّن أنصار الله كونها جهة يصعب التغلب عليها

الأنواء تحذر من رياح عالية في العراق

مقتل إعلامية لبنانية أمام المحكمة

لا حلول لـ"الشح".. العراق يلوح بـ"تدويل" أزمة المياه مع تركيا لزيادة حصصه

اعتقال قاضي المحاكم الميدانية في سجن صيدنايا بسوريا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: محاكم تفتيش نقابة المحاميين

العمود الثامن: كلمات إماراتية واطلالة عراقية

العمود الثامن: السخرية على الطريقة العراقية

العمود الثامن: محبة المسيحيين

التأثير السياسي التركي في سوريا بعد سقوط الأسد: الأهداف والاستراتيجيات

العمود الثامن: في الولاء الوطني

 علي حسين يعتقد العديد من مسؤولينا أن بلاد الرافدين التي يحكمونها الآن كانت تعيش في عصور الجاهلية، وقد قيض الله لها رجالا ليعيدوها إلى طريق الصواب، ولهذا ليس مهما توفير التنمية والازدهار والتعليم...
علي حسين

كلاكيت: المخرجون عندما يقعون في غرام الأدب

 علاء المفرجي 5 -لوليتا رواية للكاتب الأمريكي من أصل روسي فلاديمير نابوكوف، نُشرت في عام 1955 في باريس، فبطل الرواية همبرت همبرت هو أستاذ أدب في منتصف العمر مريض بشهوة المراهقين، يرتبط بعلاقة...
علاء المفرجي

النُّصيريَّة.. مِن سامراء إلى قرداحة

رشيد الخيون تُنشئ السّياسة المذاهب عند اقترانها بالدِّين، لكنْ بتعاقب الزَّمن، تنسحب وتبقى العقيدة الدّينيَّة خالصة، وبين حين وآخر يُستغل المذهب مِن قبل السَّاسة المنتمين إليه، هذا ما حصل مع النُّصيريَّة بسوريّة، فقد نشأت...
رشيد الخيون

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي* (الحلقة 11)التجربة الامريكيةفي قلب النظام التعليمي الامريكي، تكمن فكرة اللامركزية، حيث تتنحى الحكومة الفيدرالية جانبا لتفسح المجال امام الولايات والحكومات المحلية لتولي زمام الامور. هذا يعني ان كل ولاية، بل كل منطقة...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram