اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > فوزي كريم شاعر بأصابع يغطيها اللون والطين *

فوزي كريم شاعر بأصابع يغطيها اللون والطين *

نشر في: 5 نوفمبر, 2012: 08:00 م

بمقدار ما تكون عليه سجية الاعتراف الحميمي، تكون عليه المقاربة الهامسة للحقيقة الداخلية. وهذه الحقيقة لن تكون معتمة، لأن مداها الرغبة. ان رفض العنف ينطوي على فضيلة تحرير اللغة الشعرية لدى العراقي فوزي كريم. هذا الشاعر الذي يحتفل به قراءٌ على مدى الوطن العربي، يعيش في لندن منذ عام 1979.

في الجزائر وبفضل معرض الكتاب الذي أقيم هناك، كانت لي مسرة تبادل حوارات طويلة مع فوزي كريم. حدثني الشاعر العراقي عن نشاطه كرسام وشغفه بالموسيقى الكلاسيكية. وبرفقة الشاعر المراكشي ياسين عدنان، الذي تذكر لقاءاتهما المغربية، اكتشفنا سوية ديوانه "لا، ليس يربكني النفي" الذي ترجمه سعيد فرحان وصدر ضمن منشورات "لانسكين" في فرنسا(2011). هذا الكتاب هو تكملة لقصيدته الطويلة "قارات الأوبئة" التي اعتمدت السيرة الذاتية والتي صدرت ترجمتها إلى الفرنسية عام 2003، بالجهد المشكور لسعيد فرحان أيضا. يقدم المترجم الشاعر بأنه أحد مريدي الشاعر العراقي الكبير بدر السياب (1927-1964). وأمام التراجيديات التي مرّ بها العراقي، لا نملك إلا أن نجد عنوان كتاب الصحفية "ماري دو فارني":"أحيانا يصبح الصمت خيانة" (منشورات آن كاريير، باريس 2009) عنواناً صائباً. "قارات الأوبئة"، كما يخبرنا سعيد فرحان هي " مرثية شعب بأكمله، شعب جائع، منفيّ، سجين، حتى الخراب النهائي لبلد بأكمله". كيف يمكن الكشف عن الذعر الفردي والجماعي؟
فوزي كريم شاعر يرتاب من البيانات، يكره كل أشكال المباهاة. هل يمكن للتهكم أن ينزلق في طيّات الذاكرة؟ طعمه سيكون مريرا كحزن مشدوه، ذلك أن الخراب يهدد بانحلال العلاقات مع الآخرين وبتشويه الطبيعة المحتوم:
" شجرةٌ مقتلعةٌ تتعالى (...) وارتطمتْ على مبعَدةِ أمتارٍ صرةُ من معدن على صفحة الماء. فتفشى وتفشت رائحة الدخان (...) هذا يشبه قنبلةَ مدفع طائشة، أو قنبلة طائرة غير مرئية".
أحيانا ونحن نقرأ فوزي كريم، نتذكر على نحو واضح الشاعر السوري محمد الماغوط الذي ترجمه عبد اللطيف اللعبي إلى الفرنسية عام 1992، "الفرح ليس مهنتي"، ضمن طبعة "أورفيوس" التي تصدرها منشورات "لا ديفرانس"، والذي يظل أحد الأصوات اليائسة في الشعر العربي المعاصر.
إذا ما كانت المجموعة المترجمة حديثاً لفوزي كريم، معنونة بشجاعة "لا، ليس يربكني النفيّ"، فإن الوساطة، وهي سوداوية وجلية في الوقت نفسه، كانت منقوشة في صلب "قارات الأوبئة"، حيت يتعالى فجأة شعور العصيان العاجز:
"بغداد عويل في نفق الأبدية،
بغداد لواءٌ تتوارثه الجثث المنسية،
بغداد كتابٌ يقرأه شبحٌ في ليل العزلة،
بغداد مرايا لقناع القاتل".
المنفى يسرد الضياع والعثرات:
"والنادل تنهكه العادةُ كالجرذ المبلولْ،
وأنا أتردد بين الحلمِ وبين الحالمِ كالبندولْ".
ليس أمراً مدهشاً أن تثير الانتباه الترجمةُ الانكليزية لشعر فوزي كريم فيThe plague Lands، منشورات Carcanet. يبدو لي بعد قراءة "لا، ليس يربكني النفي" إنني اكتشفت عند الشاعر العراقي شيئاً مما يمكن تسميته بـ"الميل الانكليزي" للدعابة التي ذكرتني بالدعابة التي عند "فيليب لاركن"، أو في غنائية "أودن".
    الشاعر الفرنسي "بول دو برانسيون" (في مقدمته لكتاب "لا، ليس يربكني النفي") يتذكر لقاءه الأول مع فوزي كريم في فرنسا، مدعوا إلى مهرجان "أصوات من البحر المتوسط":
"...رأيت الشاعر لا يلين أمام التسويات المداهنة، رافضاً كل خطاب. لم يكن من دُعاة المواقف السياسية، أو يسعى إلى فعلٍ إدهاشيٍّ. وإزاء الأسئلة التي لا نفع فيها كان يجيب بأدب جم. لا يطلب شيئا سوى أن نسمع قصائده".
في صفحة يسرى من صفحات الكتاب: "ما من صدى/ يتعالى على صوت جاز/ يغادر نافذة نائية". يبوح بها لنا أخيراً، ولكن في الصفحة اليمنى، قصيدة تصف ركاب باص، تبدأ بسر يبعث الرعب:
" أرتاب من الذكرى (في الليل بشكل خاصْ!)
أنتثقبَ رأسي كرصاصة قنّاصْ".
القصيدة الأخيرة تبدو لسوء الحظ وكأنها كُتبت اليوم تحت وطأة الأحداث المريعة في سوريا:
"حين تُربكني خطواتُ بساطيلهم أول الفجر،
والنشيدُ المُبعثر وسط حناجرهم،
وتأرجحُ أذرعِهم،...
حينما أتكوّر محترساً، شائكاً مثل قنفذ،
بفعلِ النذير.
حين ترسب كالوحل، فوق النوافذِ، ظلمةُ ليلٍ طويل."
شعر فوزي كريم ضروري لنتذكر الإخلاص الذي يقدم مثالاً متحرراً بشكل جذري من كل لغو وانتساب لا قيمة له. رجل يحدثنا عما يؤسس وعما يرفض وينبذ في سؤال يطرحه على أبي العلاء المعري(973-1057):
" من يسكنني غيري؟"
على القارئ أن يلازم هذا العمل المرتعد، ويمكن أن ترافق القراءة نزهة في الموقع الإلكتروني لهذا الرجل المدهش، الذي هو أيضا رسام وباحث مولع بالموسيقى. وهل يمكن نسيان أغنيته التي لا تكف عن الملاحقة:
" سأعود إليك وأنشب أظفاري في أحزانك
وأحني الكفَّ بأطيانك،
وأقول هنا
تُسكرني قهوتك المرّة
يُسكرني الأملُ،
ولو مرّة".

(ترجم المقال عن الفرنسية: س.ف)

* نشر هذا المقال في جريدة "المسا، لو سوار" التي تصدر في الدار البيضاء بالفرنسية.
** سليم جاي روائي وباحث، من أب مغربي وأم فرنسية. ولد عام 1951 في باريس. من أهم مؤلفاته الروائية: "الأسبوع الذي أصبح فيه عمر السيدة سيمون مائة عام" (1979). "العصفور يعيش من ريشه" (1989) وهي تنويعات على صورة الفنان الذي يعيش من قلمه. "لا تعبر المضيق" (2001) عن المهاجرين المغاربة والأفارقة غير الشرعيين الذين يعبرون المضيق إلى أوربا. " صورة الوالد كشاعر رسمي" (1985)، وهو كتاب مؤثر يتناول حياة والده الذي كان شاعرا رسميا في بلاط الحسن الثاني. "ستكون نبابا يا ولدي" (1982). وقد أصدر كتبا عديدة عن الرواية المغربية والأفريقية وبحوثا عن كتاب فرنسيين ومغاربة. يعيش سليم جاي في باريس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram