ليس نادراً أن تكون العدائية، الصريحة والمُضْمرة، هي قاعدة السجال والتعليق في وسائط التواصُل الاجتماعيّ العربية، انطلاقاً من مبدأ سيئ الاستخدام لحرية التعبير. التقليل من شأن المُخاطَب انطلاقاً من مبدأ سيئ الاستخدام: المساواة والتساوي بين جميع البشر. وأحياناً انطلاقاً من الاستخفاف والسخرية، الواضحة أو المبطّنة، من الآخر انطلاقاً من مبدأ نجهله حتى اليوم.
بعضنا لا يوافق على فكرة أن آليات التواصُل في "السوشيال ميديا" العربية، هي من طبيعة التواصُل (العامة)، الثقافية والاجتماعية واليومية في الحياة العربية. سوى فارق واحد: عدم التواجُه شخصياً في السويشيال ميديا يمنح البعض نزقاً (وهي كلمة مؤدّبة) لا نشهده في تواصلات الحياة المباشرة. في الحياة العامة بعضنا أكثر أدباً وتأدُّباً وفروسية وحضارية وتواضُعاً. الشاشة وحش، أو تسمح للوحش القابع أمامها وحيداً، في عزلة أحياناً، بالإعلان عن صورته المرعبة. بعضنا، وللتبعيض دائماً دلالة.
إذا كان هناك بعض الخفة في استخدام الكلام في السويشيال ميديا العربية، فلأن الثقة بالكلام لم تعد مثلما كانت، كما أن السكوت لم يعد مقنعاً. ولأن الكلام الذي نطالعه يومياً أسهل ظاهرياً من الممارسات الإبداعية الأخرى كالرسم والنحت والحفر وغيرها، فهو لا يستدعي جهداً مشابهاً حتى لجهد الكلام بشأن الرسم والنحت والحفر وغيرها. ثمة جوهرياً بعض الاستخفاف بـ (عملية الكلام).
إن الطبيعية التصفُّحيّة (تُقاس سرعتها أحياناً بسرعة الضوء عند بعضهم) هي القاعدة الذهبية في السويشيال ميديا، وهي لا تسمح للمتلقي بأن يتطلّع مليّاً في لوحة، صورة، "عمل بصريّ" أيّاً كانت طبيعته البصرية. عمل بصريّ يُفترض بأنه لا يمتلك الإثارة الكافية، إذنْ لا حصة له في عملية التلقي. لكن ما هي طبيعة هذه الإثارة؟في الفرنسية الفعل تَصفَّحَ هو (feuilleter وبالإنكليزية leaf أو flip) والفعل يعني يجوب أو يجول Parcourir في كتاب أو مخطوطة عن طريق تقليب الصفحات. والفعل Parcourir (وبالإنكليزية Browse) نفسه قد يعني يقرأ على عجل.يبدو أن آليات الخطاب في وسائط التواصُل الاجتماعيّ العربية يلزمها مصطلحات خاصة بها، ونقترح مفهوم (التصفُّحيّة feuilletisme) منها. والمصطلح لا وجود له في المعاجم العربية والفرنسية.
الظاهرة التصفحية نفسها حاضرة غالباً عند تلقي عمل فنيّ، في متحف أو غاليري أو قاعات درس الفنون الجميلة، على أساس أن المرئيّ بطبيعته مفهوم ولا يحتاج الكثير من التأمُّل.المقروء في وسائط التواصُل الاجتماعيّ العربية هو من طبيعة الكتب الأكثر قراءة في العالم العربي، وهي معروفة إذا أبعدنا عنها ما يُروّج له الناشرون لأسباب تسويقية (الرويات مؤخراً). في تحقيق مصري لخّص الكاتب طبيعة الكتب الأكثر قراءة في معارض مصر كالتالي: القصص "الرومانسية ، والروائية، والقصيرة، والدرامية، والمثيرة".
هذه القصص - إذا توسَّعنا بمفهوم القصص - هي ذاتها الرائجة في وسائط التواصُل الاجتماعيّ العربية.
لكن هل يليق خطاب (الثقافة) التي هي ذات طبيعة مُركّبة، بوسائط ذات مستوى واحد، معلوماتيّ؟ هل تحتمل السويشيال ميديا، ضمن الفهم العربيّ لها بصفتها فسحة للراحة والتنفيس والفرحة والتفريغ النفسانيّ والتعليق الخاطف و(القفشة)، مفهوم الثقافة المُعقّد، المهموم بالتدقيق والمساءلة، والمزعج؟
هذا هو التناقُض الجوهريّ، حسب رأيي، إذا ما فُهمتْ دلالة مفهوم (السويشيال ميديا) بصفتها تشارُكاً بالمعلومات على أوسع نطاق. المشكلة الحقيقة هي المعنى الممنوح لمفهومي (المشاركة) - أو التفاعلية- ودلالة (المعلومة) في ثقافتنا.
عندما يكون الخطاب، خاصة (السياسيّ) و(الثقافيّ)، استعاداتٍ مصاغةً بطرقٍ أخرى، لأفكار وسياسيات ومدارس أدبية متواترة ومنابر إعلامية معروفة، يصير لا قيمة له، يصير أيديولوجيا، يصير قواعدَ وتبشيراً مُقنَّعاً.
يفقد الخطاب طبيعته بصفته جدلاً وسجالاً ومعرفةً.
في آليات خطاب وسائط التواصُل الاجتماعيّ العربية
[post-views]
نشر في: 4 ديسمبر, 2017: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
نجاح العنزي
شكرًا للكاتب القدير. اعتقد يوجد مقال سابق للكاتب في نفس الصحيفة يتحدث عن ثقافة التواصل في الوسائط الاجتماعية. وهذا المقال استكمالا لذات المسلمات والفرضيات التي أشكك فيها،ولا اعتقد أنها تصلح قاعدة للبناء المفاهيمي الصحيح حول طرق المعلومات في وسائط التواصل.