السياسة مرة أخرى، في أمثال العرب، وبصرامة شديدة، وربما ببعض الفجاجة. ففي زمن الثعالبيّ قالوا (رُبّ قُرُود في بُرُود) الذي ينطبق على بعض رجالات زماننا من الساسة والحُكّام، مع تحفّظنا عن حكم قاس وعاميّ عن القردة اللطيفة.
من المفيد أن نتلفت إلى عصر الثعالبيّ السياسيّ، وإلى مؤهلات الرجل. وهو عبد الملك بن محمد بن إسماعيل (961 - 1038م) المعروف بأبي منصور الثعالبي النيسابوري، أديب عاش في نيسابور وبرع في النحو والأدب وحصره لمعاني الكلمات والمصطلحات. كان فرّاءً يخيط جلود الثعالب.
عاش في القرن العاشر الميلادي، المزدهر ثقافياً والمنفتح معرفياً ونقدياً. والعاج بالصراعات والأحداث، فقد شهد مثلاً انشاء جامعة الأزهر في القاهرة. وإحياء عبد الرحمن الناصر لدين الله يحيي للخلافة الأموية في الأندلس واستيلاء عماد الدولة على فارس وتأسيس الدولة البويهية التي ألقت بظلالها على الدولة العباسية.
لكن العالم الإسلاميّ خلال النصف الأخير من القرن العاشر الميلادي شهد صراعات هادئة حيناً وحادة أحياناً، ظاهرة ومستترة، متأرجحاً بين الازدهار والفوضى. نهضته الحضارية دعت آدم متز إلى تسميتها بالنهضة (الرينسانس) على غرار تسمية عصر النهضة الأوربي، مقابلها، وبشكل متفارِق، حدث تدهور وتفكّك سياسيّ كبير، حيث ظواهر الخلافات السياسية والعقائدية والانشقاقات والسجالات التي تمحورت جوهرياً حول "معنى الخلافة" ومن هو الأجدر بها، "والحاكم العادل مقابل الحاكم المستبدّ". وبين هذا وذاك طلع ذوو الطموحات السياسية والمغامرون والفاتكون، والمستثمرون من قادة عسكر وإقطاعيين وشذّاذ أفاق، وبرز كذلك نزوع متحرّر لأقليات مضطهدة وملوّنة.
من جهة أخرى، انتعشت حكايات السياسة على لسان الحيوان، منذ القرن الثامن الميلادي عندما ترجم ابن المقفع كتاب "كليلة ودمنة"، حتى زمن الثعالبيّ. ومن أبرز شخصيات الحيوانات التي يتضمّنها الكتاب، الأسد الذي يلعب دور الملك، وخادمه الثور. كما أن القرد لعب دورا في الحكايات، مثل حكاية (القرد والنجار) وفيها أن القرد "يتكلّف ما ليس من صنعته ولا من شأنه". ونحن نرى أن القِرْد، إذا ما قيس بمقاييس الذكاء، حيوان مظلوم. وأن السُبّة الملصقة بالقردة مردها في ثقافتنا قوله تعالى "كونوا قِرَدَةً خاسئين"، ذلك أَن القِرْد لذُّلِّه وصَغارِه خاسئ أَبداً، على قول المفسّرين. بالنتيجة يقع هذا الصَّغَار في تناقض كبير مع ارتداء البُرُود الأنيقة الرفيعة. والبُرْدُ ثوب فيه خطوط، وخصّ بعضهم به الوشي، والجمع أَبْرادٌ وأَبْرُد وبُرُودٌ. والبُرْدَة كساء يلتحف به، وقيل إِذا جعل الصوف شُقة وله هُدْب، فهي بُرْدَة؛ وفي حديث ابن عمر أَنه كان عليه يوم الفتح بُرْدَةٌ فَلُوتٌ قصيرة، وهي الشملة المخططة. البُرْدُ معروف من بُرُود العَصْب والوَشْي، وأَما البُرْدَة فكساء مربع أَسود فيه صغر تلبسه الأَعراب.
تتبيّن هنا دلالة مثل العامة في زمن الثعالبيّ، وكيف تنطبق على بعض رجال السياسة في زمانه وزماننا. هذا إذا ما استبعدنا المخيَّلة التي تتصاعد من هذا المثل، الطريفة. لكن العامة عرفت يومذاك خصائص أخرى للقرد نمنحها نحن له اليوم عن طيبة خاطر، ففي مثل آخر من زمن الثعالبي نفسه يجيء "القرد قبيح لكنه مليح" (التمثيل والمحاضرة)، يعني بالملاحة الظرف، كأن المثل غمزة من القبح بلا ملاحةٍ تخفف من وطأة القبيح. قباحة مع ملاحة هو، في الأقلّ، ما نأمله من سياسيينا.
"رُبّ قُرُود في بُرُود"
[post-views]
نشر في: 19 فبراير, 2018: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...