يبدو أني مهموم سيميائياً هذه الفترة بكيفية انتقال الدلالات من الحقل الأيروتيكيّ (والنفسي، والحقل الحيوانيّ كذلك) إلى الحقل السياسيّ الضيّق. وهو أمر حدث دائماً، تشهد الأمثال العربية وحكمة شعوب العالم على ذلك.
الصلف، عند مستوى من المستويات الدلالية الأولى، هو من صَلِفَتِ المرأَةُ صَلَفاً، فهي صَلِفَةٌ أي لم تَحْظَ عند قَيِّمها وزوجها، قال القُطامِيُّ وذكر امرأَة (لها رَوْضَةٌ في القَلْبِ، لم تَرْعَ مِثْلَها فَرُوكٌ، ولا المُسْتَعْبِراتُ الصلائِفُ). وأَصلَفَ الرَّجلُ أي صَلِفَتِ امرأَتُه فلم تَحْظَ عنده، فهو صَلِفٌ أَبغضها؛ قال مُدْرِكُ بن حُصَيْنٍ الأَسَدي (غَدَتْ ناقَتي من عِنْد سَعْدٍ، كأَنَّها مُطَلّقةٌ كانت حَلِيلةَ مُصْلِفِ). وطعامٌ صَلِفٌ مَسِيخُ لا طَعْم فيه. صَلِفَتِ المرأَةُ عند زوجها أَبْغَضَها، وصَلَفَها يَصْلِفُها أَبْغَضها؛ وأَنشد (وقد خُبِّرْتُ أَنَّكِ تَفْرَكِيني، فأَصْلِفُكِ الغَداةَ ولا أُبالي). والمُصْلِفُ هو الذي لا يَحْظى عنده امرأَة، والمرأَة صَلِفةٌ. وفي الحديث (لو أَن امرأَة لا تَتَصَنَّعُ لزوجها صَلِفَتْ عنده) أَي ثَقُلَتْ عليه. ويبدو أن هذا البفض الجسدي والأيروتيكي مجازيّ، والأصل في الصلافة والصَّلَفُ، عند مستوى دلالىّ آخر، هو مُجاوَزَةُ القَدْر في الظَّرْف والبراعة والادِّعاءُ فوق ذلك تكبّراً، فهو صَلِفٌ من قوم صَلافَى. قال ابن الأَثير إن "آفةُ الظَّرْفِ الصَّلَفُ" وهو الغُلُوّ في الظَّرْف والزِّيادةُ على المِقْدار مع تكبّر. وهنا توضع الصلافة كنقيض لتصمُّع الظَّرْف.
لكن دلالة الصلافة هذه تحيلنا إلى مفهوم الغطرسة والعجرفة (arrogance) في الحقيقة. ويُعبّر عن الصلافة - الغطرسة مَثَلٌ عربيّ قديم يذكره كتاب مجمع الأمثال: (فاتكة واثقة بري)، وفي شرحه يقول الميدانيّ "زعموا أن امرأة كثر لبنها فطفقت تهريقه، فقال زوجها: لم تهريقينه؟ فقالت: فاتكة واثقة بري. يضرب للمفسد الذي وراء ظهره ميسرة". واليُسْرُ واليَسارُ والمِيسَرَةُ والمَيْسُرَةُ، كله يعني السُّهولة والغِنى. لعلنا نرى هنا كيف يمكن وَصْل المثل بصلافة بعض المتياسرين والسياسيين العرب في أيامنا، وهم يهريقون لبننا يميناً وشمالاً.
بالنسبة لسيغموند فرويد، فإن إنساناً غير متسامِح، إنما يهيمن عليه اعتقاد "صلف "arrogant بعصمته، وقد لا يكون قادرا أبداً على الحفاظ بتأثير قويّ على عدد كبير من الأشخاص الاذكياء، خاصة إذا كان تحت تصرُّفه إغراء عمليّ قليل". العكس يبدو صحيحاً كما يبرهن عالم السياسة، إذ يبدو إن متعجرفاً صلفاً بحوزته إغراءات وغوايات عملية ومادية كثيرة، إنما يستطيع الهيمنة على عدد كبير من البشر.
خلاف ذلك الظرافة، و(الظريف). فالأخير اليوم هو الشخص الطريف في المقام الأول. أما في اللسان الظَّرف هو البَراعةُ وذكاء القلب، يُوصَف به الفِتْيانُ ولا يوصف به الشيخ ولا السيد، والظرفُ حسنُ العِبارة، أو حسن الهيئة، أو الحِذْقُ بالشيء، وتَظَرَّف فلان يعني تكلَّف الظَّرْف. والظَّرِيف البَلِيغ الجَيِّد الكلام، وقيل الظَّرْف في اللسان، وقيل الظَّريف الحسَنُ الوجه واللسان، يقال لسان ظَرِيف ووجه ظريف، والظَّرفُ في اللسان البلاغةُ، وفي الوجه الحُسْنُ، وفي القلب الذَّكاء. والظرْفُ في اللسانِ، والحَلاوةُ في العينين، والملاحةُ في الفم، والجمالُ في الأَنف. والظرف الكِياسة. يمكن لاي منصف أن يتأسى اليوم لغياب الظرف والظرفاء بهذه الدلالة الواسعة، الإنسانية والجمالية العميقة.
يستوقف قول اللسان (تَظَرَّف فلان أَي تكلَّف الظَّرْف)، لأن متصنِّع الظرف ثقيل الظلّ بالأحرى. وإذا ما اجتمعت الصلافة والتظرُّف، فإننا نشهد ساسةً، وغير ساسة، على شاكلة بعض ما نشهد من الكوارث.
تلويحة المدى: الصلافة والظرافة، في الأدب والسياسة
[post-views]
نشر في: 26 فبراير, 2018: 07:52 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...