متابعة- المدى
رحل أمس الكاتب ومحقق كتب التصوف قاسم محمد عباس ( 1962 – 2018 ) في بغداد، إثر مرض عضال، تاركاً خلفه قرابة ثلاثين كتاباً ما بين تراجم وتحقيق وبحث، إلى جانب بعض الكتابات الأدبية من رواية وشعر.
امتهن الراحل التحقيق، وكرّس معظم اشتغاله على كتابة تراجم لسير المتصوّفة، ومن أبرز أعماله الدراسة التي أعدّها بعنوان "هكذا تكلّم الحلاج"، وسعى فيها إلى نقد آراء الاستشراق في التصوّف الإسلامي عموماً، وإعادة النظر في عمل ماسينيون على الحلاج خصوصاً، ومحاججة مقولاته التي ترى بالفقر الميتافيزيقي في الإسلام.
كبار المثقفين والكُتاب والفنانين والصحفيين ينعون قاسم محمد عباس، فهو قامة كبيرة رحلت عنّا في غير وقتها لم يترك لنا سوى ذكرى كتبه التي اشتغلها، وبعضٌ من حكايات جمعت أصدقاءه به، ومن هنا إنطلقت أسراب من الحروف والكلمات تودّع الراحل بين وحشة الرحيل وعدم تصديقه حيث قال الكاتب والصحفي عبد الزهرة زكي "صديقي وأخي وصاحبي، موضع سري حين يضيق الصدر بالأسرار، ورحابة أفق رجائي حين تطبق أمامي الآفاق، ما أوحش هذه الظلمة، ما أشد الوحشة بعدك يا صاحبي. سلاماً لك أبا فؤاد، قاسم محمد عباس، هل من عزاءٍ سوى ثقتي بأن قبراً يستقبلك الليلة سيكون مضاءً بك."
عجزت عقول البعض عن التصديق حيث ذكر حسين محمد عجيل "عاجز عقلي عن تصوّرك يا صديقي الاستثنائي في عالم آخر لا سبيل إليه، الثقافة العراقية أصيبت اليوم برزيّة كبرى حين فقدت أديباً يعدّ أحد أبرز ممثليها صوتاً عراقياً تنويرياً نبيلاً، وقاصّاً وروائياً فذّاً، وباحثاً أصيلاً، ومحقّقاً اشتغل على التراث الصوفي وقدّم منجزاّ كبيراً."
ترك عباس محبيه على قيد موعد، حيث قال كريم شغيدل " لم يتح لي الموت سماع صوتك؟ وعدتني أن نلتقي لِمَ أخلفت موعدك؟ قاسم معقولة؟أبهذه البساطة نموت؟."
من الصعب التصديق كيف يرتضي لنا من نحب كل هذا الحزن ألأنهم ببساطة قرروا الرحيل عنا ؟ رائد محسن ينعى الراحل قائلا "كيف طاوعك قلبك على هجرنا بهذه السرعة ؟!أعرفك طيباً وديعاً تتغنى الناس بأخلاقك وشكلك ، قاسم الحلو هكذا كنا نسميك ، لماذا تركت لنا كل هذه المرارة في قلوبنا وحلوقنا ؟أستعجلت كثيراً ، قاسم محمد عباس كنت صديقاً مدهشاً بكل شيء ، نم صديقي لروحك السلام.."
أماكنٌ تجالسوها معاً وتقاسموها سويةً وجمعتهم نصير غدير يتحدث عن تلك الاماكن" ماذا أقول للمكانات التي تجالسنا بها وارتوينا بها بنبيذ عصارة أفكارك التي أسكرتنا بها معرفةً وضحكا به انتفعنا نورا، أنا أرى أهلك وأصدقائك وارواحنا يحملون نعشك وهم يضحكون لأنهم غير مصدقين وفرحين لانّك قد غادرتنا بصوفيتك التي أحبها الله فزرعها فيك وجنينا ثمارها نحن الّذين سنلحق بك متى لا ندري! لروحك السلام حتى نلتقي."
واستعجل قاسم محمد عباس الرحيل رغم الحديث الذي جمعه بسهيل سامي نادر والذي نشر الأخير جانباً منه قائلاً "قبل شهرين نصحتك ألا تسرع . أجبتني بأنك في عزلة شديدة لا مجال فيها للاسراع ولا تعجيل ما يتاخر . أظن ، بسبب الليل ، والمسافة ، وتقطع الماسنجر ، فهمتني خطا . بالأحرى أردت ان تطمئنني بأنك ما دمت معزولاً وتحافظ على عزلتك فأنت بخير ، ولن تصل إليك أمراض الحياة العراقية ونذالاتها . بيد أنني عرفتك مصنوعاً من مادة متفجرة، يهتز جلدك من مرور سيارة مسرعة ترتجف غيضاً من سماعك ضحكة في غير محلها، يقتلك تصريح سياسي كذاب تهتز طربا من أغنية ،تذوب من أفعال الرحمة واللطف، لا مهرب إذن ، وما من عزلة تنجيك ، وما من عزلة تعيد صناعة جسدك العراقي بطريقة اخرى ."
وقد خُلّد محمد بما تركه خلفه كما قالت سلوى زكو " قاسم محمد عباس ترك خلفه بصمتين "واحدة في الحقل المعرفي الذي كرس له حياته والثانية رسمت علامة في نفوس عارفيه مثل جرح قديم.."
ولم يكُن لمحسن الرملي سوى كتابة ما قاله قاسم محمد عباس "استذكارنا لحسن مطلك سيدلنا على حقيقة التزام المبدع والمثقف بقضاياه. ربما يقدم لنا حلاً ما لأيام المحنة والأزمة حينما تطبق. أو يثير فينا الأسئلة الحقيقية، أسئلة تتعلق بمواجهة مصاعبنا ومصائرنا. أو يدلنا على كيفية إعادة إنتاج إبداعنا ."
أي إطلالة تحمل كل تلك الرقة والبراءة الصباحية سنفتقد بعد اليوم؟ مُفتقداً إياه حسين الهنداوي يودع محمد قائلا" مع من سيدور حوارنا شبه اليومي المتقطع واللامنتهي أبداً عن الحلاج وجلال الدين الرومي وابن عربي وسواهم من رواد كنت بيننا الأفضل والأعمق والاكثر علما وتواضعاً وألقاً."