TOP

جريدة المدى > عام > غواية القراءة: كلنا ولدنا نعاني من الوحدة.. وبعضنا يبقى على وحدته

غواية القراءة: كلنا ولدنا نعاني من الوحدة.. وبعضنا يبقى على وحدته

نشر في: 7 إبريل, 2018: 05:43 م

|       19         |

 علي حسين

مهمتي أن أستعين بقوة الكلمة لكي أجعلك تسمع ، وأن أجعلك تشعر ، وقبل ذلك كله أجعلك ترى
جوزيف كونراد
في حديث مع أندريه جيد حول الكتب العظيمة ، يقول الروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست :" لعل إحدى السمات العظيمة والرائعة للكتب الجيدة انها تتيح لنا رؤية الدور الذي تلعبه القراءة في حياتنا الروحية " .
كان بروست آنذاك في الخامسة الثلاثين من عمره ، لم ينشر سوى قصص قصيرة ، يسعى لكتابة رواية من عدة أجزاء ، يجلس كل يوم الى طاولة الكتابة ، وينهض بعد منتصف الليل دون أن تظهر إشارات على إنجاز أي شيء ، وهناك وصف يقدمه أحد كتاب سيرته عن حياته في تلك الأيام :" كان السرير يئن من ثقل الكتب والأوراق ، وطاولة الكتابة مليئة بأكوام من الورق ، وغالباً ما كان يكتب من دون أن يضع مسنداً ، وهناك علبة أقلام رخيصة ، البعض منها قد سقط على الأرض".
ولأن بروست كان محباً للتأمل ، نراه يعشق الوحدة باستثناء علاقته بأمه ، فقد أحبت مدام بروست ابنها بقوة وكانت تؤكد إنه عاجز عن فعل أي شيء من دونها . عاشا أربعة وثلاثين عاماً سوية منذ ولادته وحتى لحظة وفاتها وكان قلقها الأكبر يتعلق بابنها مارسيل الذي لن يستطيع العيش في هذا العالم بدونها :" أرادت أمي أن تعيش كي لاتتركني في حالة من الأسى الوحدة التي كانت تدرك إنني سأغرق فيها من دونها " .
كان من عادة مارسيل بروست أن يقرأ صباح كل يوم في القواميس ، وحاول ذات مرة أن يضع قاموساً صغيراً للكلمات التي تعجبه ، ولاحظت أمه إنه كان يركز على كلمة " وحيد " ، وقد أخبرته ذات يوم إن الوحدة لاتقتضي دائما انعدام الرفقة ، فمن الممكن أن تشعر بالوحدة حتى وأنت في علاقة مع الآخرين أو بين أصدقائك . وقبل أكثر من ألفي عام كتب الفيلسوفي اليوناني زينون :" كون المرء وحده ، لايجعله وحيداً ، كما أن وجوده بين الجموع ، لاينفي عنه بالضرورة صفة الوحدة " .
يتولد الشعور بالوحدة بسبب غياب أو عدم كفاية القُرب ، هكذا يكتب فرويد في تحليل شخصية دستويفيسكي ، ولهذا يقول فرويد إن أعمال دستويفيسكي كانت تجربة مؤلمة ترتبط بالحاجة غير المشبعة للألفة الإنسانية .
في العام 1902 ، بدأت صحة مارسيل بروست بالتدهور ، ومنذ ذلك الحين اضطر الى أن يحيا حياة منعزلة ، وبدأ كأنه هجر كل شيء ، لكنه كان يقرأ كثيراً ، وقبل وفاة والدته بأسابيع ، يكتب في يومياته من إنه يعيش حالياً :"وحيدا محروماً من كل شيء ، من ضوء النهار ، من الهواء ، من كل عمل ، وباختصار من الحياة".
ولد مارسيل بروست في العاشر من تموز عام 1871 لوالد يعمل استاذاً للطب كرس نفسه لتحسين معايير تعزيز الصحة النفسية ، وكان مهتماً بوجه الخصوص بمعالجة الامراض المعدية ، وقد سميت إحدى المستشفيات في مرسيليا باسمه ، وعند وفاته عام 1903 ، كان قد حقق شهرة عالمية ، وفي يومياته يكتب مارسيل بروست ، إنه كان يشعر بدونية مقارنة بأبيه ، ويخشى أن يكون الوجه السلبي لهذه الحياة المفعمة بالعمل والنشاط التي عاشها الأب . ما الذي كان مارسيل ينوي أن يفعله بحياته ؟ لقد قرر أن يؤسس مجلة أدبية صغيرة " المأدبة " ، كان الوالد يتمنى لو أن إبنه برع في مجال العمل المحاسبي ، أما هو فقد كان يحب الكتابة والأناقة ، ويستحضر أحد اصدقائه صورته في شبابه :" عينان سوداوان واسعتان ، متألقتان ، نظرة في منتهى النعومة ، صوت أشد نعومة أيضاً من النظرة ، هندام فائق العناية ، صداريات فضاضة من الحرير ، وردة أو زهرة أوركيديا في عروة المعطف ، قبعة مستديرة مستوية الحواف كانت توضع أثناء الزيارات آنذاك قرب مقعد الجلوس " .
في العام 1896 ينشر أول كتبه " المسرات والأيام " ، وطلب من اناتول فرانس ان يكتب المقدمة له ، إلا أن الكتاب يفشل فشلاً ذريعاً ، ورغم هذا الفشل كانت أمه تؤمن إيمانا كبيراً بموهبته ، ويجيب على سؤال يوجهه له أحد الأصدقاء عن معنى الشقاء في تصوره :" أن أكون منفصلاً عن أمي "
في العام 1905 ، توفيت والدته ، فيقرر الانسحاب نهائياً من الحياة الاجتماعية ، إنه زمن العزلة ، هكذا كتب في دفتر يومياته ، زمن حجرة الكتابة المليئة بالأوراق والكتب والشبابيك المغلقة دائماً لصد الرياح القادمة من الشارع ، إنه زمن ملازمة الورق بصورة دائمة ، حيث ملأ بروست الدفاتر العشرين برواية جديدة ، لم يكن يخرج سوى في الليل بحثاً عن التفاصيل الضرورية لعمله الروائي ، من عام 1910 الى عام 1922 قام بكتابة " البحث عن الزمن المفقود ، وكان يقول لكل من يلتقيه إنه كتب كتاباً جميلاً ، لكن المفاجأة كانت بإنتظاره حيث رفضت معظم دور النشر طباعة الجزء الاول من الرواية ، فقرر في النهاية أن يطبعه على نفقته الخاصة ، وفي 1913 يصدر " منازل سوان " ويتأخر نشر الجزء الثاني بسبب الحرب العالمية الأولى ليصدر عام 1919 بعنوان " في ظلال ربيع الفتيات " لينال عليه جائزة الغونكور ، ويصبح مشهوراً ، ويحظى كتابه بتقدير القراء ليس في فرنسا وحسب ، وإنما في انكلترا وأميركا وألمانيا ، لقد اعترف العالم بانه ليس أمام كاتب كبير فقط ، بل أيضاً أمام أحد المبتكرين النادرين في تاريخ الادب العالمي .
يتساءل صمويل بيكت أين تكمن أصالة رواية البحث عنم الزمن المفقود :" إن بروست يرى الكون الأوحد الحقيقي هو كون الفن ، وان الفراديس الحقيقية الوحيدة هي الفراديس التي ضيعناها " .
في العام 1928 أقام صمويل بيكت في باريس للمرة الأولى ، حيث تعرف على جيميس جويس ، ثم أصبح صديقه وسكرتيره ، وحين أخبر جيميس جويس بأنه ينوي تأليف كتاب عن مارسيل بروست ، نصحه بأن يتفرغ لقراءة أعمال شوبنهور لكي يفهم رواية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود ، ونجده يصف عمل الفيلسوف الالماني المتشائم بأنه " المحاولة الأكثر طموحاً لتسويغ الشقاء فكرياً " . أما رواية بروست فقد ألهمته أفكار جديدة متحررة من الأوهام .
************
كنت في السادسة حين قررت الإنضمام الى جماعة مسرحية شبابية ، أخوض معهم نقاشات حول المسرح والكتب التي تصدر حديثاً ، وفي أثناء المناقشات التي تجري في المجموعة ، كان الحديث يدور عن مسرح اللامعقول ، والذي كنت لا أعرف عنه شيئاً ، وذات يوم أخبرني صديق
إنه عثر على مكتبة في شارع السعدون تعرض احدث الاصدارات في مجال المسرح ، كانت المكتبة عبارة عن ممر طويل مليء بالكتب مما اضطر صاحبها ان يستعين بكرسي واحد فقط يجلس عليه في أحيان كثيرة عبد الوهاب البياتي أو غالب هلسا . وكان من عادة صاحب المكتبة " ابو طه " ان يحدثك عن الكاتب والكتاب ، والأهم أن باستطاعته أن يحصل لك على أي كتاب تريده . كانت هذه المكتبة بوابتي الى عالم مدهش من المسرح ، ولا زلت احتفظ بالنسخة التي أعطاني اياها العم " ابو طه " لكتاب " مسرح العبث " وهو دراسة مع مجموعة مسرحيات كانت " في انتظار غودو " واحدة منها .
قررت أن أتفرغ لقراءة ما كتبه أعلام مدرسة اللامعقول والعبث ، كانت هذه المسرحيات غريبة ، إلا أن قدرة كتابها على اقناع القارئ مدهشة ، كنت آنذاك أسعى لأن أحوّل قراءاتي للكتب الى فعل اجتماعي أتشارك به مع الآخرين ، وأحببت فكرة أن يقرأ معظم أعضاء المجموعة مسرحية بيكيت هذه .
ولد صمويل بيكيت في الثالث عشر من نيسان عام 1906 في إحدى ضواحي مدينة دبلن في ايرلندا وهو الأبن الثاني لعائلة ميسورة الحال ، والده يعمل مساحاً للاراضي ، محب لقراءة الروايات الغرامية بينما كانت الأم تلقن ابنائها الصلوات والتراتيل ، في نفس اليوم الذي ولد فيه ظهر كتاب هنري برجسون " التطور الخلاق " ، وأعلن عن وفاة الرسام الشهير سيزان ، وفي يومياته يخبرنا بيكيت أن لديه ذكريات قبل ظهوره الى الدنيا :" أتذكر انني كنت محشوراً حبيساً ، وغير قادر على الإفلات . كنت أبكي كي يسمحوا لي بالخروج لكن أحداً لم يكن يسمعني . لم يكن يصغي ألي أحد " . ونعرف أن ولادته كانت عسيرة ، حيث استغرقت أكثر من عشر ساعات . منذ اليوم الأول لولادته حظي بعناية متميزة من والدته ، ومثل والدة بروست كانت تحمل له مشاعر حب عميقة ، وأيضاً كانت تتمنى أن يعمل في مجال المحاسبة والمال والتجارة ، وسنجده مثل مارسيل بروست سيرفض ذلك .
منذ الصغر نما لديه شغف حقيقي بالكتاب ، أغرم بقراءة هودرلين وشوبنهور وبودلير وابو لينير وغيرهم ، وتفرغ لحفظ التوراة ومعه صفحات كثيرة من القواميس التي كان يقضي معها أوقاتاً طويلة ، وعندما يكبر يخبر والدته بانه سيصبح كاتباً ، في سن الحادية والعشرين نشر كتابه " أحلام المرأه العادية " وهو كتاب وصفه النقاد انذاك بانه مجموعة من الهذيانات ، بعدها بعام يقرر أن يرحل الى باريس هناك يتعرف على جيميس جويس كان عمره آنذاك 22 عاماً و بدأ يفرض تأثيره الكبير عليه وفي حوار معه بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1969 ، قال لأحد الصحفيين إن " جويس كتب من موقع ( كلي القدرة ) أو على نحو رباني ، في حين إنه – اي بكيت – كتب من موقع الجهل والعجز " ، في العام 1930 يعود الى ايرلندا بعد أن علم بموت والده فجأة ، كان الخبر بالنسبة له مؤلماً وجعله مكتئباً ، مما دفع أمه أن تدخله مصحة للعلاج النفسي ، وقد ساعده ذلك العلاج على أن يتخذ قراراً ببدء حياة جديدة بفضل معرفته للعديد من اللغات ، فغادر الى المانيا للدراسة فيها لمدة سنة واحدة ، وهناك يتفرغ للغوص في أعمال شوبنهور ، كتب الى أحد أصدقائه :" كانت قراءته أشبه بنافذة فتحت فجأة في غرفة تفوح منها رائحة العفن . لقد عرفت على الدوام إنه من بين أكثر الاشخاص أهمية في حياتي ، وبدأت أفهم وأنا في الثلاثين من عمري لماذا كانت قراءة شوبنهور متعةً أكثر حقيقية من كل المتع التي ذقتها منذ زمن طويل . إنها لمتعة أيضاً ان تجد فيلسوفاً يقرأ كما يقرأ شاعراً " .
لقد قرر نهائياً أن يتبنى وجهة نظر شوبنهور التي تتفق مع نظرته الى العالم والأشياء . القطيعة النهائية بين الإنسان والطبيعة ، وبين الإنسان والإنسان ، والحياة المليئة بالألم والموت والضياع والوحدة والفراغ .
يعود من جديد للقاء معلمه جيميس جويس ، وقد ربطت بينهما صداقة استمرت حتى موت جويس ، كان الاثنان يحبان الصمت : " كانت المناقشات بيننا تقتصر غالباً على تبادل الصمت " . كان جويس يجلس جلسته المعتادة ، وقد لف ساقيه وقدميه ويتخذ بيكيت برغم قامته الطويلة الوضع نفسه .
في العام 1948 ، ينتهي بيكيت من كتابة مسرحيته " في انتظار غودو " لكنه يواجه رفض المسارح تقديمها ، لأنها مسرحية بلا حكاية ولا أحداث
ويستمر الأمر حتى يوم الثالث من كانون الثاني 1953، ففي ذلك اليوم كان الباريسيون على موعد مع مسرحية ديكورها مختصر الى أبعد حد ، شجرة جرداء وممثل يحاول خلع حذاءه ، إنه استراغون، وسرعان ما يلحق به فلاديمير ، ويبدو للمشاهد إنهما إلتقيا بالأمس فقط ، لكننا نكتشف إنهما تعارفا منذ خمسين عاماً ، إنهما ينتظران في هذا المكان شخصاً على موعد معهم ، لانعرف سوى أن اسمه غودو ، وهما يشغلان وقتهما بانتظار مجيئه بحديث مشتت تختلط فيه الشكوى بالحنين والذكريات والتأكيد على الصداقة ، والتذمر أيضاً ، ورغبة في الذهاب ، لكنها سرعان ما تتلاشى
- هيا بنا .
- لايمكننا الذهاب
- لماذا
- اننا بانتظار غودو
ولسوف تتكرر هذه العبارة سبع مرات ، ويستمر ذلك الإنتظار الرتيب على طول مدة المسرحية :" لاشيء يأتي ، لا شيء يحدث، لا أحد يجيء ، إن هذا لايطاق " ، لكن شخصين جديدين يظهران على المسرح ( بوزو ولوكي ) تبدو على الأول سمات الطاغية ، فهو يمسك بالثاني في حبل ، ويُحمل عليه حقائبه ، ويلقي عليه أوامره بقسوة ، ولا يفعل شيئاً سوى المرور على المسرح ، وعرض مشهد يرقص فيه لوكي بناء على أوامره ، وبعد ذهاب هذين الشخصين ، يعود استراغون وفلاديمير الى الإنتظار ، حتى لحظة وصول صبي يعلن أن غودو :" لن يأتي هذا المساء ، لكنه سيأتي غداً بكل تأكيد " .
الفصل الثاني وهو اليوم الثاني حيث نشاهد الشجرة مكسوة ببعض الأوراق ، ونجد أن الأحداث نفسها تتكرر على المسرح مع تغيرات بسيطة ، عاد فلاديمير واستراغون ليلتقيان مرة أخرى وعادا الى الإنتظار والى حديث متقطع ، حيث نجد استراغون يتحدث دائماً عن الرحيل ، لكنه يخفق دائماً في الوصول اليه . ويعود بوزو ولوكي ، لقد أصبح الأول أعمى ، والثاني أخرس ، ومرة أخرى لن يأتي غودو ، ويعود الغلام نفسه لينقل الرسالة ذاتها ، وينتهي الفصل الثاني بعبارة مكررة حرفيا من نهاية الفصل الاول :
- نذهب إذًاً
- هيا بنا ( ولا يتحركان ) .
إذن نحن أمام مسرح يتحول الجميع فيه الى كتلة لحمية . فاستراغون وفلاديمير ، بوزو ولوكي ، ليسوا سوى تسميات لحضور وحيد هو : الإنسان . لكن الأكثر غموضا بالنسبة لجمهور المسرح ، بالتأكيد هو غودو ، والذي أفسح اسمه وغيابه الدائم لتفسيرات عديدة ، فالاسم جعل البعض يعتقد إنه مشتق من الكلمة الانكليزية " God " أي الله ، ويتضح بذلك في مجمل أحداث المسرحية ، إذا كان فلاديمير واستراغون في انتظار الإله ، لكن هذا لم يأت ، ونكون بذلك أمام مشهد يمثل بؤس الإنسان من غير الإله ، وان الله غير آبه الى قدر الإنسان العابث ، وتبقى النتيجة إن الإنسان لايعرف إلا وجوداً بلا معنى ، لقد خلق ليموت ، وما حياته إلا حركة جوفاء لاترتبط بأية أهمية ، ولعل أهمية في انتظار غودو تأتي من انها كانت خلاصة للفلسفة الحديثة من شوبنهور وعدمية الوجود ، الى هيدغر وعبارته الشهيرة الإنسان خلق للموت الى وجودية سارتر " لايمكن تفسير الوجود ، إنه عبثي".
إن عالم بيكيت أسود وعدمي ، بل هو حالك السواد والعدمية . وكما حدث مع شوبنهور ، فإن نجاح بيكيت كان بطيئا ، كانت كتبه تباع لكن المبيعات قليلة جدا . فعلى سبيل المثال لم يبع من كتابه " ميرفي " سوى أربع وثمانين نسخة بين 1941 و1951 وكان آنذاك في الخامسة والاربعين ، وكان يكسب عيشه من تدريس اللغة الانكليزية ، وزوجته تعمل في خياطة الملابس ، تسانده ، تحتمل نوبات يأسه ، وتعجب بحاجته للصمت وتشاركه فيه . ثم بدأت الشهرة ، وبدأت مسرحياته تعرض وتنتقد وتمتدح وتترجم الى لغات العالم ، وتحسن وضعه المالي لكنه ظل يعاني من الإكتئاب ويشعر باحباط شديد ،يكتب الى أحد أصدقائه " أنا بحاجة الى قراءة شوبنهور من جديد ، كي يساعدني في مصارعة الحالة التي أمر فيها " .
************
قال عنه نيتشه إنه عاش وحيداً ، في عزلة مطلقة ،ولم يكن يتخذ له في حياته صديقاً قط ، وما بين الواحد المفرد واللاشيء ، تمتد الأبدية . كان شوبنهور قد فقد أباه وهو في السابعة عشرة من عمره ، علاقته مع أمه كانت بين مد وجزر ، كما إنه لم يتزوج . كان آرثر شوبنهور قد ولد عام 1788، ورث عن أبيه كما يقول إرادته ، أما عن أمه فقد ورث عنها ذكاءها المفرط ، في سن الخامسة عشرة أبدى رغبته في دراسة الأدب ، في التاسعة عشرة من عمره بدأ يجرب كتابة الشعر ، وقرر أن يعيش في بيت منعزل ليتفرغ لكتابة رسالته الشهيرة في الفلسفة " العالم إرادة وتمثلاً " الذي صدر عام 1819 ، ولم يبع الناشر سوى 400 نسخة خلال عشرة أعوام .
في هذا الكتاب يرى شوبنهور إن الوساطة الوحيدة بين الإنسان والعالم الخارجي هي الحواس والمشاعر . فأنت إن رأيت شجرة انطبعت صورتها في ذهنك ، وهذه الصورة إنما انتقلت عن طريق عدسة العين ، فقد تكون مطابقة لحقيقتها الخارجية وقد لاتكون ، إذن فالصورة التي يكوّنها ذهنك عن هذا العالم هي فكرة خلقتها حواسك ولا يحتم أن تكون لها حقيقة واقعة مطابقة لها ، ويكاد يجمع الفلاسفة على أن العقل وجوهره هما الشعور والفكر ، إلا أن شوبنهور يرفض ذلك ،وكان يتهم الفلاسفة بأنهم يتلاعبون بعقول الشباب ، ويسخر من هيغل الذي كان يجده يقارن بين الأشياء ويوازن بين الآراء دون أن يهتم بالأشياء في حد ذاتها ، ولهذا نراه يكتب إن الظواهر جميعها سواء أكانت مادية أم نفسية محكومة بقوة واحدة ، لاشخصية ، ولايمكن مقاومتها يسميها " إلارادة " ، إلا أن معنى هذه الكلمة عند شوبنهور يكاد يكون بالنقيض من المفهوم الشائع عن الإرادة بوصفها أمراً خاضعاً لسيطرة الإنسان وتوجهه ، لسنا نحن من يريد ، بل العالم ، الطبيعة ، فنحن لانملك من الأمر شيئاً ، سواء علمنا أم لم نعلم، فنحن مجرد ظواهر عارضة ، محكومون بتلك الإرادة التي تسبقنا وتتجاوزنا ، وهذه الإرادة هي جوهر الأشياء في الكون ، وهي المادة الأصلية الوحيدة لأية ظاهرة من الظواهر ، ولهذا نجد شوبنهور يضع حرية الاختيار في مرتبة الوهم البشري ، ويرى إنه حتى في الحالات التي يكون لدينا انطباع باننا نفعل ما نريد فإن هذه الإرادة تحدها طبيعة شخصيتنا التي لاسلطة لنا عليها ، إن ما يحركنا هو دوافع ونزوات لاتخضع لسيطرتنا وبالتالي لافائدة من الندم على أي من أفعالنا الماضية
في مقدمة كتاب " العالم إرادة وتمثلاً " يكتب شوبنهور :"لا الى معاصريّ ، بل الى البشرية ، أكرس عملي الذي اكتمل الان ، واثقاً إنه لن يكون غير ذي قيمة للبشرية ، حتى لو كان سيتم الاعتراف بهذه القيمة ببطء، كما هو المصير الحتمي للخير بأية صيغة كانت".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram