شاكر لعيبي
ما نكتبه أحياناً في وسائط التواصل الاجتماعي باختصار، والسجالات حوله، يضيع رغم أهمية الموضوع. هنا أود تطوير سؤالي الذي طرحته أواخر شهر آذار: أليس هناك طالب جامعيّ راغب بكتابة أطروحة تحت عنوان (شعراء السلطة في عراق السبعينيات) بعين أدبية خالصة، وموضوعية صافية؟ ألا تستحق الثيمة معالجة عميقة، فهي ضاربة في بلد مثل العراق، حتى يومنا الراهن.
أنا ممن يعارضون، عبر عشرات المقالات والملاحظات، التقسيمات العشرية، لذا قلت "عراق السبعينيات"، فالفترة هذه متميّزة للغاية، والجميع يعترف بتمايزها الموسيقي والغنائيّ مثلاً وانفتاحها الاجتماعيّ النادر. فلماذا لا تصلح الفترة (وليس الجيل) للدراسة إلا من وجهة نظر غير أدبية؟ ووفق أي معيار يا تُرى؟ إلا أن يكون المعيار السائد في النقد العراقي وووجهات النظر السريعة فيه، وهو نقد دون صرامة نقدية كما يبدو.
لنحاول أن نسهّل المهمة: في هذا النقد، يقال: ظهر في السبعينيات شعراء بعثيون وشعراء شيوعيون وكلهم "أيديولوجيون". يعني تقريباً مشكوك بشعريتهم بسبب أيديولوجيتهم، لكن المقصود بهذه الأيديولوجية الشيوعيين على وجه الخصوص وليس سواهم، وفي ذلك قراءة ليست من طبيعة نصية، ولا من طينة أيطيقية. الحقيقة أن هناك شعراء سلطة، وشعراء مرتابين من السلطة، فليس للأمر بعذئذ علاقة بالشاعرية ولا بالأيديولوجية كليهما في هذا الطرف وذاك. وهذا مربط الفرس.
سيُقال لك: يبقى الجيل السبعينيّ رهين الخلاف الايديولوجيّ حتماً، بين اليسار والبعث القوميّ السلطويّ المهيمن على الدولة وكل مؤسساتها وبمساهمة، شئنا أو أبينا، من قبل يسار متخاذل غدر باحلام الناس ولم يكن بالمستطاع انتقاده أو الوقوف بالضدّ منه، وكان قد انتصر بالنهاية لسلطة الدولة والفرد المستبدّ، حيث خلق أدبه وأعلامه وتوجّهاته التي قادت بالأخير لهيمنة الانحدار العظيم. ويقال لك إن السؤال الجذريّ هو "هل يُلام من أنحاز وتماهى مع السلطة وهو بلا عدة نقدية ولا مباديء ولا قضية تشغله ولا هم سياسيّ له سوى الوصولية والانتهازية، أم الآخرون الذين كانوا مشروع حلم وأنطفأ؟" هذا سؤال ملتبس.
وفي الجواب على ذلك نقول إن المشكلة أننا لا نتفق مع فكرة "يبقى الجيل السبعينيّ رهين الخلاف الايديولوجي حتماً" المُرحَّلة عنوة الى الحقل الشعريّ، إذا لم تكن بالأصل إشاعة واسعة الانتشار، فأي جيل وأيّ زمن في التاريخ الحديث لم يكن رهين خلاف أيديولوجيّ ما، وما المقصود بالأيديولوجي؟ لذلك وابتعاداً عن فكرة (الأديولوجية) ضمن الفهم المحليّ العربيّ الملتبس جداً لها، نقترح فكرة بديلة: ثمة شعراء للسلطة أو مدافعون عنها أو منضوون في ملذاتها، وشعراء ليسوا كذلك. هكذا لا نضع الجميع في سلة الخلاف الأديولوجي المُضبّبة. سيقال لك إن أولّ من حاول أو أراد أو أوجد مشروع (أدلجة الفنّ أو الأدب) هم الشيوعيون العراقيون للأسف، وأن الحزب الشيوعي طبع مجموعة قصائد لشعراء الفصحى والشعبي في مناسبة العيد الاربعين له، وكذلك أول من أسّس لمعرض الحزب (التشكيليّ)، حيث استمد وشرعن منها البعثيون لمَعارِض (حزب البعث) فيما بعد ومهرجاناته الأدبية.
لكن ما هي يا ترى علاقة شعراء السبعينات اليساريين بجرائر (يسار متخاذل انتصر لسلطة الدولة ولفرد مستبدّ)؟ هذا يعني أنهم انتصروا أيضاً في مواقفهم أو شعرهم ليسار متخاذل انتصر لسلطة الدولة ولفرد مستبدّ، لأنهم لم يوجدو لأنفسهم رأياَ نقدياً لا يخالف معتقداتهم. هنا بعض مشكلات هذا الموقف الذي أساجله.
وفي حقيقة الأمر ليس ممنوعاً تأريخياً أن يعتنق المرء الشيوعية أو اليسار، لكن من دون أن يُحملَّ هفوات الوضع السياسيّ والحزبيّ في البلد، كما يقع في الحالة الشعرية والسياسية السبعينية. وإذا ما كان بعض الشعراء محسوباً على اليسار الشيوعيّ، ففي الشكل فقط، وليس في الهوامش والكواليس الأكثر أهمية التي لا تفوت في الغالب على المنقّبين عن الحقائق الخفية. وإذا كان "أول من حاول أو أراد أو أوجد مشروع أدلجة الفن أو الأدب هم الشيوعيون للأسف"، فمن نقصد بذلك، الشعراء السبعينيين؟ هل هم ممثّل الحزب الشيوعي العراقيّ؟ خاصة وأن أعمارهم كانت بين 23 - 25 سنة؟ هذا إفراط.
أما ما أثبته الزمن والتأريخ بشأن تلك (التهمة الأيديولوجية)، فهو ما يشيح المساجلون بوجوههم عنه.