شاكر لعيبي
إنه بشكل أساسيّ، الإرث اليونانيّ وعلى رأسه فلسفتي أرسطو وأفلاطون، ومن بعده التراث الرومانيّ وثقافة العصور المسيحية بجميع تياراتها وأصولها. كُتُب هذا التراث تُعاد طباعتها دورياً منقّحة ومُعلَّقاً عليها، بينما الدراسات حول هذا التراث فهي من الاستمرارية بحيث لا تكاد المطابع الأوروبية تتوقف عن إنتاج المزيد من الأعمال كل يوم. هل يُدْرس بروح دينيّة أو رجعيّة أو قومانيّة؟ غالباً، كلا، يبحث الأوروبيون فيه عما قد يفيد حاضرهم. إنه مجموعة من النصوص العتيقة، شعراً ونثراً وفلسفة وحكاياتٍ ولغةً ورسائل حول مختلف الشؤون التي يُعاد فحصها بشكل منتظم ومنهجيّ، من أجل تطوير أفكار جديدة تنفع الحاضر الثقافيّ، وليس البقاء في تمجيدها وتصنيمها، كما فعلت الثقافة العربية وتفعل حتى صار التراث فيها رديفاً للبقاء في الماضي، روحياً وإبداعياً، رغم ثرائه وتنوع موادّه وتناقضات مواقفه وتبايُن معتقدات مؤلفيه.
أسلافنا أنفسهم قرأوا بعمق جزءاً كبيراً من التراث الأوروبيّ، اليونانيّ لهذا الغرض المعرفيّ، النقديّ بما يفيد ويجدّد ثقافة تلك اللحظة، فقد جاء في كتاب الحيوان للجاحظ مثلاً:
"قال بعضهم: ما بال ديسيموس يعلِّم الناسَ الشِّعرَ ولا يقول الشعر قال: هو كالمِسَنِّ الذي يشحَذ ولا يقطع". والمِسَنّ: هو الأداة التي تُشحذ بها السكاكين. وهناك أكثر من مثقف يونانيّ واحد يحمل الاسم Decimus، ولعله يقصد ديسيموس لابريوس (حوالي ١٠٥ قبل الميلاد - ٤٣ ق.م.) كان فارساً وكاتباً رومانياً للتمثيل الصامت (المهازل).
كان الجاحظ، مداوَرَةً، يُقدّم في الحقيقة تعليقاً عن الفارق بين الناقد والشاعر.
اليوم نحن لا نقرأ شيئاً كبيراً من التراث العربيّ الضخم، خاصة الأجيال الشابة، بزعم تقعّره، وموات الأفكار العظيمة فيه وعدم منفعته في إضاءة مشكلات الراهن، وبسبب الاعتقاد أنه موطن للأفكار البائدة والسلفية، وخلطه الدولة والسياسة بالدين.
لكن هذه الاعتقاد هو رفضٌ معاصر للخلط الحالي بين الدين والسياسة، المُستثمَر على نطاق واسع.
في الثقافة الأوربية أيضاً، ثمة "سلفية" عند بعض المؤيدين لروح وجوهر النزعة الثقافية المسيحية- اليهودية التي يعتقد بعضهم في أمريكا وأوربا، متأسسين على قراءة معينة للنص الدينيّ أنها تتفوّق على ما سواها، فتقرأهم وتُفسّرهم بطريقة قد نسميها (رجعية). منذ الليبراليون الجدد وصولاً إلى ما يسمى الآن بالمسيحية الصهيونية، ثمة قراءة سلفية في جوهرها لبعضٍ من التراث الأوربيّ.
يتساءل المرء عن الفارق بين سلفيينا الإسلاميين، وسلفية ترامب وجماعته من المتأسسين على تلك القراءة للمسيحية؟ من وجهة نظر قصور الإداء والانغلاق المزمِن، وطريقة التفسير الثابث والأحاديّ والأيديولوجيّ للنص الدينيّ. لا فارق وليس مهماً فيما بعد ديانة وتراث تلك القراءات. هل نتحدث عن (الإخوان المسيحيين) في أمريكا؟ عن خلط للدين والسياسة هنا وهناك؟ نعم في الحالتين.
لكن موقف الأوروبيين من تراثهم، في مجمله، قائم على القراءة العقلانية والتاريخية وعلى منهجية معاصرة وبمواقف متطوّرة ولا- دينية. كتب هنري لوفيفر بما معناه أنه يفتش في التراث الأوربيّ عمّا قد يضيء وينفع اللحظة المعاصرة الراهنة. وهذا هو الفارق بين القراءة الأوربية المتواصلة لأرسطو، والعزوف الحَرد العربيِّ عن قراءة ابن رشد، مع عظمته.
موقف الأوروبيين من (تراثهم) قد يُقدّم أفقاً جديداً لتفكير العرب بتراثهم.