شاكر لعيبي
قلنا إن المعنى الحقيقيّ للأفعال والأسماء والصفات في لسان العرب تتحوّل تحوّلات عميقة لتصير نوعا من المجازات. نحن ننسى في الاستخدام غالباً أصول المعاني الحقيقة للمفردات التي تعبّر في أذهاننا عن معانٍ جديدة. فنحن ننسى غالباً ان أصل الفعل (تَسنّمَ) في جملة (تَسنَّمَ المناصب العالية) أي استلم وارتقى المناصب العالية إنما هو (سنام) الجمل. وننسى أن (امرأة حاصن وحصين) اي شريفة هو (الحصن) – البناء الدفاعيّ، وغير ذلك الكثير جداً.
قد يقال لك إن إضافة ملحق صغير للفعل كجرف جر يُغيّر من دلالته، وإن هذا هو من المشترك بين الكثير من لغات العالم غير العربية. فالفعل العربيّ ضرب سيدل على شيء آخر لو أضفنا حرف الجر (في) وقلنا (ضرب في الأرض). وهذا يماثل إضافة اللاحقة (up) التي تُغيّر معنى الأفعال والأسماء بالإنكليزية: (make-up)، (backup)، (blow up) والعشرات غيرها.
لكن لا يتمّ الأمر بالضبط وفق هذه الشاكلة في العربية. فالفعل نفسه دون ملاحق يمتلك معانٍ ودلالات محتلفة.
خذ الفعل (أحْدَثَ) فهو مرة يعني دون لاحقة (استحدث) شيئا حديثاً ومرة يعني دون لاحقة (فسا، أبدى): أحْدَثَ الرجل إذا صلع أو فصع وخضف، أي فعل ذلك فهو محدث (وللكلمة الأخيرة هذه شجون). أضف لذلك أن أحْدَثَ الرجل وأحدثت المرأة إذا زنيا؛ يكنى بالإحداث عن الزنا.
الأمر ينطبق نفسه على الفعل أبدى والإبداء الذي يعني مرة أظهر أو أعلن (أبدى رأيه) مثلاً، ومرة يعني (فسا وأحدث).
لنركز على الفعل (حدث) ولنر ما يحدث:
حدث والحديث: نقيض القديم. والحدوث نقيض القِدَم. حدث الشيء يحدث حدوثاً وحداثة، وأحدثه هو، فهو محدث وحديث، وكذلك استحدثه. وأخذني من ذلك ما قدم وحدث؛ ولا يقال حدث، بالضم، إلا مع قِدَم، كأنه إتباع. ومثله الكثير. لكن مفردة (الحديث) تدل على شخص كثير الحديث مثل فسيق، وعلى كل أمر جديد، في آن واحد. و(الحدث) هو الفتيّ الشاب حديث السن، بَيِّن الحداثة. كما أن الحدث هو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد، ولا معروف في السنة. وقد تطورت مفردة الحداثة إلى ما نعرفه اليوم.
والحدثان تعني جملة من الأمور: حِدْثانُ الشَّيْءِ، بِالْكَسْرِ: أَوّلهُ. وما يحدث منه واحدها حادث ؛ وكذلك أحداثه، واحدها حدث. والحدث من أحداث الدهر، شبه النازلة. وحِدْثان الدهر وحوادثه أي نوبه. والحَدَثانُ هي الفأس التي لها رأس واحد. الحَدَثانِ هما اللَّيل والنهار.
قد يقال لك إن حروف العلة القصيرة (voyelles brèves) الضمة والفتحة والكسرة هي التي تغيّر الدلالات في مفردة مثل (الحِدْثانُ والحَدَثانُ). نعم هو صحيح في مفردات العربية مثل (البَرُّ: ما انبسط من سطح الأرض ولم يُغَطِّه الماء. البُرُّ: حَبُّ القمح. البِـِرُّ بالوالِدَيْنِ: الإِحْسانُ والطَّاعَةُ). لكنك تجد دوماً المفردة بمختلف معانيها الاشتقاقية تحت الفعل نفسه (برر). فالعربية تقوم على مصدر ثلاثي تخرج منه مختلف حركات حروف العلة القصيرة التي قد تغيّر الدلالة كما في البر وقد لا تغيّرها أبداً كما في استخدامات العاميات العربية، بل الفصحى، للفعل نفسه مكسور الأول أو مجروره أو مضمومه كما في استخدام الكثير من الأفعال المعروفة (وهو ما قد تلتقي به في اللغات السامية نفسها).
هل توجد علاقة داخلية بين هذه التحوّلات الدلالية، أي الذهاب من الحقيقيّ إلى المجازيّ؟ نعم غالباً وهي أحياناً من الرهافة بمكان عظيم، كرهافة استخدام الشعراء للمفردات.
فمما لا شك فيه فإن إخراج الفعل الفصيح (أحْدَثَ) من حقله الدلاليّ الأصليّ إلى دلالة الفعل الجنسيّ، الزنا، يحيط الفعل بهالة استعارية، شعرية.