شاكر لعيبي
اعتاد النقدُ الشعريّ في العراق، على تصنيف الشعراء إلى أجيال، ومنح صفاتٍ وميّزاتٍ شبه ثابتة لكلّ جيل، سلبية أو إيجابية. وفيما يتعلق بجيلي ما انفكّ حتى اليوم يُقسّمه، في سياق منهجية اجتماعية – سياسية (أي ليست شعرية) وفق منطق إيديولوجيّ مُلتبس، إلى بعثيين وشيوعيين. وفي هذا التقسيم يوصف الشيوعيين بشيء يشبه التهمة الدامغة هي (الأيديولوجية): إنهم شعراء أيديولوجيون، أكثر من غيرهم. حتى أنك لا تعرف علة استثناء الشطر الآخر، وفق المنطق النقديّ هذا نفسه، من التهمة. على كل حال، يبدو هذا الاستثناء مُضْمَراً، وفي الأقلّ لا يوجد تشديد على وصف الشعراء الآخرين (غير الشيوعيين؟؟)، مماثل للتشديد (الأيديولوجي) على شعراء اليسار، ربما لأن جُل المعنيين والنقاد العراقيين انضووا يومها، مختارين أو كارهين في منظومات الحزب الحاكم الثقافية. حسناً، لا بأس.
ينسى هذا النقد أن قصّاصي هذا الجيل كانوا قد اختاروا مواقفهم السياسية وفق استقطاب اللحظة التأريخية نفسها. وأنهم كانوا يُفاضلون بين القطبين المعروفين، ويختارون أحدهما. فلماذا لم يقع أبداً مثل هذا التقسيم النقديّ لقصّاصي عراق السبعينيات: بين شيوعيين وبعثيين؟ هذا أمر مثير للفضول والتساؤل. هل لأنَّ الكتابة القصصية تحمل بطبيعتها خياراً اجتما- سياسيّاً اكيداً، أكثر من الفعل الشعريّ المتفتّح والوجوديّ الذي ينأى بنفسه عن الآني واليوميّ والسياسيّ؟ أم العكس؟ أم لأنَّ ثمة سهواً نقدياً، استسهالاً وتسطيحاً في رؤية كامل المشهد الثقافيّ العراقيّ في تلك الحقبة؟ هذا السؤال يستبعد سوء الطوية لكي يكون عقلانياً، رغم أن الوسط الثقافيّ في البلد يسمح بعدم استبعادها. لو استطردنا مبرهنين على أن تَماثُلاً يكاد يكون تاماً، بهذا الشأن، بين الشعراء وكتاب القصة في عراق السبعينيات، لطال بنا الحديث. الأمر ينطبق على رسّامي السبعينيات بالتمام.
لماذا استعادة الموضوع بعد هذا الزمن كله؟ لأنّ بعض النقد في العراق، ما زال اليوم متمسّكاً بتلابيب هذه المفاهيم التبسيطية، ولا أودّ القول الساذجة، حتى وهو يُعالج الحركة الشعرية النامية، الخارجة في العشرين سنة الأخيرة. وبشأنها يستخدم من جديد مصطلحات اجتما-سياسية أيضاً أكثر من خيارات الفحص النصيّ. لذا يبدو النقد الشعريّ في البلد وهو يتبع أسوأ تطبيقات (النقد الاجتماعيّ) أو (النقد السياسيّ) المعروفة.
أن نقد شاعر موتور في سنواته الأخيرة مثل سعدي يوسف، لبعض رموز جيل السبعينيات وكل جيلٍ آخر، ينطلق بشراسةٍ من هذا (النقد الاجتماعيّ والسياسويّ) للنص الشعريّ وللفعل الإبداعيّ والنشاط الإنسانيّ برمته، وهو يشطر العالم، من جديد، إلى شطرين، بلا ظلال ولا هوامش ولا تردّدات واحتماليات، وبلا عواطف مُرهفة قبل ذلك كله، أضفْ لذلك، أن الرجل لا يستطيع رؤية التحوّلات في العالم وفي الكائن الإنسانيّ. ولعلّ نموذجه للأسف هو أسوأ النماذج النقدية منذ الجدانوفية، الطالعة من معطف ستالين.
لكن النقد الشعريّ العراقيّ الذي يُصنّف حقبة السبعينيات إلى شيوعيين وبعثيين، هو نقد جدانوفيّ، من حيث يدري ولا يدري، ولعله في الغالب لا يدري، وتلك كارثة نقدية.
شعراء أيديولوجيون؟ نعم. قصّاصون أيديولوجيون؟ كلا أو (لعم). رسامون أيديولوجيون؟ لا ندري.
هذه المفارقة لا تطرح فقط سوء التعاطي النقديّ، للإبداع الذي لا يتجزأ، إنما هي إشارة كبيرة ودالّة لعدم امتلاك النقد المحليّ العراقيّ معياراً مفهومياً شاملاً ومُحْكَما، وعدم قدرته على (التمييز) وهو شرط فلسفيّ أوليّ لمَلَكَة الحُكْم.