شاكر لعيبي
كلنا يعرف معنى الفعل (نَصَرَ ينصرُ نصراً). "لسان العرب" يجعلنا نتوقّف، كعادته، أمام شعريات اللغة ودلائلها الوجودية الأعمق والأَجَلّ.
الشائع المعروف أن نصر والنصر: إعانة المظلوم، نصره على عدوه ينصره ونصره ينصره نصراً، ورجل ناصر من قوم نصار. لكن في اللسان نفسه: النواصر هي مَجاري الماء إِلى الأَودية، واحدها ناصِر، وهي مَسايِل المِياه، واحدتها ناصِرة، سميت ناصِرة لأَنها تجيء من مكان بعيد حتى تقع في مُجْتَمع الماء حيث انتهت، لأَن كل مَسِيل يَضِيع ماؤه فلا يقع في مُجتَمع الماء فهو ظالم لمائه. وقال أَبو حنيفة "الناصِر والناصِرة ما جاء من مكان بعيد إِلى الوادي فنَصَر السُّيول" [سنعود إلى تطابق ذلك مع الأصل الاشتقاقيّ لاسم مدينة الناصرة]. ومن ذلك نصَر البلاد ينصُرها أي أَتاها؛ ونَصَرْتُ أَرض بني فلان أَي أَتيتها؛ قال الراعي يخاطب خيلاً (إِذا دخل الشهرُ الحرامُ فَوَدِّعِي بِلادَ تميم - وانْصُرِي أَرضَ عامِرِ). ونَصر الغيثُ الأَرض نَصْراً: غاثَها وسقاها وأَنبتها؛ ونَصَر الغيثُ البلَد إِذا أَعانه على الخِصْب والنبات. والنُّصْرة هي المَطْرَة التَّامّة؛ وأَرض مَنْصُورة ومَضْبُوطَة. نُصِرَت البلاد إِذا مُطِرَت، فهي مَنْصُورة أَي مَمْطُورة. وفي الحديث: "إِنَّ هذه السَّحابةَ تَنصُر أَرضَ بني كَعْب" أَي تُمطرهم. والنَّصْر العَطاء؛ قال رؤبة "إِني وأَسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرا لَقائِلٌ: يا نَصْرُ نَصْراً". في اللسان أن نصره ينصره نصراً: أعطاه. والنصائر هي العطايا. والمستنصر هو السائل. ووقف أعرابي على قوم فقال: انصروني نصركم الله، أي أعطوني أعطاكم الله. ونصرى ونصرى وناصرة ونصورية: قرية بالشام، والنصارى منسوبون إليها.
وكل ذلك يصبّ في الدلالة العامة للمعونة والمساعدة على الخير والنماء، وليس (النُصْرة) المعروفة اليوم.
السؤال الآن: هل الظاهرة المائية (النواصر) هي أصل الفعل المعروف نَصَرَ أي أعان وساعد وعاضد، أم العكس هو الصحيح؟ نحن نتردّد، رغم بداهة القول إن الفعل المعروف الحالي قد يكون استخداماً مجازيّاً لأصل ذي معنى مائيّ. والقاعدة في علوم اللسانيات هو وجود استخدام أوليّ، (طبيعيّ مثلاً) خرجت منه المجازات والاستعارات اللاحقة كلها. هذا يتطلب العودة إلى لغة سامية كالأكدية للتثبُّت من ذلك، وهو أمر نمرّ عليه أدناه بسرعة. فمما يعزز الدلالة المائية الأصلية للفعل (نصر) هو التفسيرات المقدّمة لاسم مدينة (الناصرة) الفلسطينية، حيث يذهب بعض العلماء إلى أن معناه مركز أو برج الحراسة. كما كان اسمها يعني (الجبل المرتفع)، أو (منحدر الماء إلى مجراه). ذهب بعضهم إلى أنّ أصل الاسم من اللغة الآرامية، وذهب آخرون إلى أنّه من السريانية، وآخرون أنه من العبرية، أو العربية، ولكن معانيها حُصرت في بضع مضامين منها المائي والنباتيّ حصراً: الزهرة أو البرعم المتفتح، أو باقة الأزهار، أو بستان الشجيرات، أو الزنبقة، أو رونق الشيء وإشراقه. وبهذا المعنى القديم المائي والنباتيّ يتوجب قراءة معاني بعض أسماء العلم الآشورية مثل نبوخذ نصر أو بختنصر (بخت نصر) ويقول علماء الآشوريات بأن اللاحقة (نصر) تعني الحامي أو المحميّ، وهذا يعيدنا ألى الجبل أو منحدر المياه. وبالطبع خرجت من (الناصرة) مفردة (النصرانيّ) و(النصرانية). وهاتان المفردتان، بالعودة دوماً للسان، أصلهما نصران ونصرانة لكنهما لم يستعملا إلا بياءي النسب، فقالوا: رجل نصرانيّ وامرأة نصرانية. هذا يعني أن الأصل بذلك هو الفعل نَصَرَ نفسه، الموصول بمدينة الناصرة.