شاكر لعيبي
ومن شعريات اللغة العربية استخدام اسم التفضيل (أنكى)، والأنكى تعني الأغلب الأشدّ، والأقهر الأبشع. يقال مثلاً "ألَمُ اللفظِ أشدّ وأنكى". ومن التهديدات قولهم "الآتي أشدّ وانكى". وأنكى موصول بالفعل نكي. نكى العدو نكاية أي أصاب منه. وحكى ابن الأعرابيّ (إن الليل طويل يَنْكِنا) يعني لا نُبلَ مِن هَمِّه وأَرَقِهِ بما يَنْكِينا ويَغُمُّنا. [وفي رواية أخرى: بما يَنْكِينا ويَغُمُّنا، وهذه الرواية "موضوعة غالباً" خشية الالتباس والاختلاط مع فعل شهير شنيع معروف آخر]. ونكيت في العدو نكاية إذا قتلت فيهم وجرحتُ، قال أبو النجم :
نحن منعنا واديي لصافا - ننكي العدا ونكرم الأضيافا.
وفي الحديث "أو ينكي لك عدواً"، يقال (نكيت في العدو أنكِي نكايةً فأنا ناكٍ): إذا كثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك. ونكأت القرحة أنكؤها نكأ إذا قرفتها وقشرتها. وقد نكيت في العدو أنكي نكاية أي هزمته وغلبته، فنكي ينكى نكى. ونَكَى الْجُرْحَ قَشَرَهُ وَلَمْ يَبْرَأْ بَعْدُ.
في البدء، ينتقل اسم التفضيل الحالي (أنكى) و(الأنكى) من دلالة الفعل "نكي نكاية" المحسوسة الملموسة التي تشير إلى إصابة العدو إصابة شديدة تقتيلاً وجراحاً، إلى دلالة مصبوبة على الألم النفسيّ الغائمة العائمة. لذا فهو اسم عائم غائم على نحو ما. قد يَعتبر بعضهم اسم التفضيل هذا، من متقعِّر اللغة، رغم سلاسته الواضحة. لكنه محاط بهالة استعارية، لأنه مقذوف في تفضيلٍ بالمطلق تقريباً، أو هو سابح في شيء من المطلق. فمن المعروف أن التفضيل هو اسم مشتق يدلّ على شيئين اشتركا في صفة واحدة وزاد أحدهما على الآخر في هذه الصفة. فهل هناك مزيد في فعل النكاية التي هي دلالة على "إيقاع الألم" الذي من الصعب قياس درجاته، أو أن درجاته محض إحساس فرديّ خالص.
من جهة أخرى فإن صياغة اسم التفضيل من فعل ثلاثيّ على وزن (أفعل) تستوجب استيفاء شروط ثمانية معروفة. أحدها لا يستوفيها (أنكى) في تقديرنا، وهي ان يكون قابلا للتفاوت، أي أن يكون من الأفعال التي تقبل مفاضلة بعضها على بعض فهناك أفعال لا تقبل التفاوت كغرق ومات فلا نقول "فلان أغْرق من فلان" أو "فلان أمْوت من فلان" فلا يمكننا التفاضل فيها. فهل في (النكاية) المجازية، بل كل نكاية، قابلية المفاضلة والتفاوت؟ أم أن النكاية واحدة مهما كانت درجتها؟ وهذا يحيلنا إلى غياب المفضَّل عليه المجرور بـ (من) في استخدام (أنكى)، ففي قولنا مثلاً "النساء أرقى من الرجال" نلحظ فوراً المفضَّل عليه (الرجال)، ولكننا لا نلحظه بل أنه قد غاب تماماً في قولنا (الآتي أنكى)، أنكى ممن ومماذا؟ وقولنا (أذى النميمة انكى)، أنكى ممن ومماذا؟ نحن نفترض مضمراً: (الآتي أنكى من الراهن) و(أذى النميمة أنكى من الكلام الصريح). وفي هذا الإضمار شيء من شعرية (أنكى). لذا فإن الاستخدام الغالب الراهن منصبّ على القول: (والأنكى من ذلك) و(الأنكى من هذا) لجعل المُفضّل عليه من نصيب تأويلات المتلقي بعد ذكر أمر جلل.
من المثير للفضول أننا لا تجد، حسب استقصاءاتنا، إشارة إلى اسم التفضيل (أنكى) في لسان العرب، ولا في ديوان المتنبي، ولا في ديوان أبي تمام، ولعلنا لا نجد في جميع كتب أدب العصر العباسيّ. وجدنا في بعض الكتب المتأخرة (التاسع عشر الميلادي) المثل (جرح اللسان أنكى من جرح السنان). فمتى دخلت إلى اللغة العربية صيغة التفضيل أنكى؟ مُتأخِّرة؟ بغياب معجم اشتقاقي تأريخيّ، من الصعب أن نعرف، وهنا بعض مغامرات (أنكى).
جميع التعليقات 2
نورهان
دورت كتير و المعاجم الالكترونية لم تنصفنى فى التيقن من معنى انكى شكرا جزيلا للمقال الجميل
Khad
شكرا جزيلا