لطفية الدليمي
كلّنا حكّاؤون إبتداءً من الجدّات البسيطات غير المتعلّمات اللواتي يبرعن في حكي الأقاصيص الساحرة لأحفادهن وحفيداتهنّ وحتى حَمَلة جوائز نوبل ،ولعلّ الجدّات أكثر براعة في الحكي من المتعلّمين بسبب قدراتهنّ الحكائية البدائية التي لم يخدشها التلوث الناجم عن القدرات العقلية المكتسبة اللاحقة، وهنا تبدو المقدرة الحكائية ( بل وحتى اللغة ذاتها ) أقرب إلى الغريزة الشبيهة بالغرائز العديدة الأخرى ، وعلى هذا الأساس لن يكون أمراً غريباً أن يعنون أحد أكبر البحّاثة في ميدان علم النفس المعرفي وهو البروفسور ستيفن بنكر من جامعة هارفارد أحد كتبه ذائعة الصيت بعنوان ( غريزة اللغة ) .
الإنسان كائن حكّاء بطبيعته ، وتمثل مقدرته الحكائية سمة ملازمة لتطوّر اللغة لديه ، ومن معين اللغة وكنزها الرمزي ينهل الحكّاء ليعبرعن رؤيته للعالم عبر آليات معقدة تنتهي سلسلتها في قدرة التعبيرعن الحياة بشكل متتالية حكائية من الوقائع . تختلف الحكايات وتتلوّن بحسب خبرات الحكّائين وخلفياتهم الثقافية ومقدراتهم العقلية ؛ إنما يظلّ المرء حكّاءً في نهاية الأمر ، وربما كان وصف ( الإنسان الحكّاء ) هو الوصف الأمثل لتطوّر الكائن البشري في سلسلة الإرتقاء البيولوجي بعدما إمتلك القدرة على التعامل الرمزي عبر اللغة .
يختلف الروائي كلّ الإختلاف عن الحكّاء أو راوية القصص، وإذا كنّا كلنا حكائين بالضرورة فلسنا جميعاً روائيين ، والمقدرة الروائية ( والسردية ) ليست غريزة أو مقدرة فطرية بدائية بل هي صناعة يقدر على التصدي لمتطلباتها من أوتي عقلاً روائياً يمتلك المقدرة على رؤية العالم عبر السرد وأدواته المتعددة .
تجيد الطبيعة بذكائها الخارق كيفية التعامل مع الكائنات البشرية ؛ فنجد أن القدرة الحكائية سمة مشاعية بين البشر جميعاً ومن مختلف الثقافات لأنها آلية دفاعية توفّر للمرء إمكانات التعبير عن حاجاته ومكبوتاته وأحلامه وبالتالي إدامة شروط ومتطلبات وجوده البيولوجي وتوازنه النفسي على الأرض عبر إمتلاك القدرات التواصلية المؤثرة مع البشر ؛ أما القدرة السردية فليست مشاعية بل هي مقصورة على هؤلاء الذين لايأنسون الحياة إلا إذا تمكّنوا من التعبير عنها بوسائل سردية تمنحهم الإحساس بالتوازن الروحي والثراء العقلي الناجم عن الإحساس بقيمة الإنجاز .
هل يمكن الحديث عن عقل روائي متمايز عن العقول الأخرى ؟ الجواب بكلّ تأكيد : نعم ، العقل الروائي تشكيلة خاصة هي أقرب لأن تكون خلطة متوازنة من كل العقول الأخرى (العقل الرياضياتي والفيزيائي والتحليلي والحكواتي والنفسي والتشكيلي والسينمائي،،، ) ، وصناعة الرواية عملية شاقة لن تنجح إذا لم ينهض بها عقل تشكلّ تشكلاً روائياً في لحظة الخلق الأولى ثم اكتسب الخبرات المطلوبة.
الرواية فنّ ساحر لاينجو من غواياته المدهشة إلا القلة من الكتاب، وهذه حقيقة تنشأعن الإيمان بالمقدرة التأثيرية للرواية في عقول القارئين إلى جانب الشهرة الممكنة لبعض الكتاب وارتقائهم لمصاف النجوم الكبار؛ غير أن لهذه الغواية مزالقها الخطرة فقد تؤدي إلى النكوص النفسي عند فشل التجربة ووهن الموهبة.
انتشرت في أيامنا هذه ظاهرة تجريب العديد من الناس الكتابة الروائية ،أناس بمشارب ثقافية ومهنية شتى، وهي ظاهرة لاضير فيها وتتّفق مع مُتطلّبات الديمقراطية الجندرية والمهنية ، شرط أن يشعرذلك الكاتب بنقص جوهري موجع في كينونته الإنسانية إذا ابتعد عن كتابة الرواية كما يحدث للروائيين الكبار، وإذا لم تمنحه الكتابة الروائية توازنه النفسي وانتشاءه الخارق الذي يبلغ حد الافتتان بعمله فسوف تغدو محاولاته الكتابية ضرباً من إضاعة الوقت والجهد ،و مُخادعة النفس بادعاء الموهبة الروائية.