شاكر لعيبي
قد نجرؤ على القول إن غالبية مواد "لسان العرب"، تنطوي على تحوّلات، بعضها جذرية، تنقلها من الحقل الحقيقيّ إلى الفضاء الإستعاريّ، من وصف ظاهرة واقعية أو شيء محدّد، نحو استخدام مجازيّ يمسُّها بإضاءات شعرية، بعضها مُبْهِرٌ.
وعلى سبيل الاختيار الاعتباطيّ، نفتح اللسان ونقع على مادة (خَرَطَ)، فماذا من ذلك؟ المستوى الأول في البدء: الخرط هو قشرك الورق عن الشجر اجتذاباً بكفك. وخرطت الورق أي حتته، وهو أن تقبض على أعلاه ثم تمر يدك عليه إلى أسفله. وفي المثل "دونه خرط القتاد [الشوك]". خرطت العنقود خرطاً إذا اجتذبت حبه بجميع أصابعك.
ومن خرْط العنقود هذا يخرج مستوى دلاليّ ثان: الخروط هي الدابة الجموح يجتذب رسنه من يد ممسكه ثم يمضي عائراً خارطاً، وقد خرطه فانخرط، يقول بائع الدابة "برئت إليك من الخراط" أي الجماح. وفرس خروط أي جموح. ومن هذا المستوى يخرج مستوى فرعيّ: يقال للرجل إذا أذن لعبده في إيذاء قوم: قد خرط عليهم عبده، شبّه بالدابة يفسخ رسنه ويرسل مهملاً. ومنه (انخراط الصقر): انقضاضه، وخرط الرجل خرطاً إذا غص بالطعام.
إننا نخرج من خرط اليد إلى فكرة الانقضاض. ثم نخرج من ذلك بمستوى سايكولوجيّ: انخرط الرجل في الأمر وتخرط: ركب فيه رأسه من غير علم ولا معرفة. ومنه قيل (انخرط علينا فلان) إذا اندرأ عليهم بالقول السيء والفعل. ورجل يخروط ينخرط في الأمور بالجهل. وانخرط علينا بالقبيح والقول السيء إذا اندرأ وأقبل. واستخرط الرجل في البكاء لج فيه واشتدّ. والخارط والمنخرط في العدو هو السريع.
فمن الانقاض الذي يتضمن مفهوم السرعة نتحوّل إلى مفهوم السرعة عينها.
بعدئذ تحولات دلالية من كل نوع: اخترط السيف: سلَّه من غمده. وخرط الفحل في الشول خرطاً: أرسله، وخرط الإبل في الرعي خرطاً أرسلها، وخرط الدلو في البئر كذلك أي ألقاها وحدرها. وفي حديث عمر أنه رأى في ثوبه جنابة فقال "خرط علينا الاحتلام" أي أرسل علينا. وخرط جاريته خرطاً إذا نكحها، وهو هنا فعل جنسيّ، انقضاضيّ وسريع. والخرطيط فراشة منقوشة الجناحين. والخرط لبن منعقد يعلوه ماء أصفر. والخريطة هي حاجية مثل الكيس تكون من الخرق والأدم تشرج على ما فيها، ومنه خرائط كُتب السلطان وعمّاله. وأخرطها أشرج فاها. ومن ذلك اليوم الخريطة والخرائط الجغرافية وهذا يشير إلى عمق التحولات الدلالية للمادة الأصلية. ومن المفردات اللاحقة مفردة (الخرّاط) وهي مهنة النجّارين والنحّاتين فيما مضى، واليوم المشتغل بالخِرَاطة هو من يقوم بقصّ المعادن أو يدير آلة الخِراطة الكهربائية. ومن الفصيح الحالي (انخرط في الأمر أو المظاهرة أو الحزب) أي انضمّ فيه وإليه.
ومن مفردات (لنقلْ بالأحرى من استخدامات) العاميّة العراقية (الخَرْط) و(إنسان يْخْرط) أي يرسل الكلام على عواهنه، بشكل غير مترابط أو منطقيّ، والاستخدام موصول يقيناً بالفصيح أعلاه: انخرط الرجل في الأمر وتخرّط أي ركب فيه رأسه من غير علم، ومن مفردات العامية العراقية أيضاً حلوى (الخرّيط) نسبة الى طريقة صناعتها التي تعتمد على مادة صفراء تشبه الطحين من قصب السكر وهو ما يعرف محلياً بـ (الخرط) ويُسمّى من يقوم بالاستخراج (الخرّاط).
قد يقول قائل إن الدلالة الجامعة الشاملة لمادة (خَرَطَ) تقع في الدلالة الكبرى (للاسترسال). وهذا صحيح ولعله ينطبق على غالبية مواد المعجم و موادها الفرعية التي تنضمّ في النهاية إلى دلالة جامعة وفعلاً أصلياً وجودياً.
رغم ذلك، فالمسافة مُعتبَرة بين الخرْط الأصلية (هو قشرك الورق اجتذاباً بالكف) وخرْط السيف، وخَرْط مهنة الخرّاط. أو بين الخروط (الجَمُوح) والخريطة والخارطة.
من هنا هذا الاستخدام الشعريّ للفعل في قول العجاج يصف ثوراً وحشياً:
"فظل يرقد من النشاطِ
كالبربريّ لجّ في انخراطِ".
انخراط العجاج هنا، مثله مثل (انخراط الصقر) تبدو وكأنها من المجاز المحض مقطوع الصلة بالدلالة الحقيقية الأولى، بل أن التعبير (انخراط الصقر) يبدو وكأنه بعضٌ من الشعريّ الصافي.