شاكر لعيبي
نعود إلى الانشغال بالمعجم الشهير (لسان العرب) من وجهة نظر شعرية. وقبل تناول مادةٍ من مواده، نشير إلى فكرة، ليست متواترة، ولكنها حاضرة على الدوام، تفيد صِيَغُها المفرطة بأنه، أي القاموس، بأية لغة كانت، إنما هو قصيدة حول كلّ شيءٍ. فالممثل والمنتج وكاتب السيناريو الأمريكي ستيفن رايت (Steven Wright) قال ذات مرة: "كنتُ أقرأ في القاموس، وفكّرتُ أنه قصيدة حول كل شيء".
قبله قال أناتول فرانس: "أنا مجنون هذه الكتب. غالباً ما وجدت نفسي أمارس لعبة غائبة في قاموس كبير، كثيف مثل الغابة. هذه الكلمات هي صور. إنه قاموس، إنه الكون بالترتيب الأبجديّ. لأخذ الأمور بشكلٍ بيّنٍ: القاموس هو الكتاب بامتياز. جميع الكتب الأخرى موجودة هناك. انها فقط مسألة سحبها" (مقدمة المعجم الموسوعيّ عام 1935).
أما أدباء الطليعة، فإن وجهة نظرهم بهذا الشأن لا تختلف كثيراً. بالنسبة لجان كوكتو فأن: "أعظم تحفة في الأدب ليست أبداً سوى قاموس غير مُنظّم" (في بوتوماك 1919). وبالنسبة لرولان بارت فإن "القاموس هو آلة الحلم".
وبين هذا وذاك يتردّد صدى الفكرة. آلان ري يذكر "يجب أن يتغذى القاموس على العالم الحقيقيّ"، وأنطوان بلوندين يشير أن: "مفارقة القاموس هي: لا يمكن تفسير الكلمات إلا بكلمات أخرى"، وهنري باوتشر يؤكد أن "القاموس هو رابط الإثم، وهو نوع من السجن حيث يتم إرفاق كل فضيلة بالرذيلة التي تخالفها تحت الغلاف نفسه والاسم نفسه"، أما جان إيف سوسي فيتوقف أمامه بصفته متاهة: "القاموس مليء بالممرّات التي تتقاطع وتتقاطع. متاهة من اللطيف أن تضيع فيها، متاهة تتعثر فيها في كل خطوة بالأحجار الكريمة".
ونحسب أن فكرة القاموس بصفته (قصيدة حول كل شيء) وأنه (متاهةٌ، الضياعُ بها متعةٌ)، تنطبق بشكل بارز على المعاجم العربية غزيرة المواد مثل (لسان العرب). إنها بسبب طبيعتها تقذفنا من حيث لا ندري إلى الفضاء الشعريّ، حيث التناوُب بين المعاني وتعدّدها بشأن المادة والمفردة نفسها متسع، وهو من التنوّع والاختلاف حتى أنه يَمسّها جوهرياً بطبيعة الاستعارة، وأننا نتقلّب مرة أخرى من (الحقيقيّ) إلى (الخياليّ)، ومن (الواقع) إلى ما ورائه، ومن (الأصل) إلى (الفرع) الذي سيبدو لنا مقطوع الصلة بأصله.
تحت مادة (عطل) مثلاً في اللسان لن نجد بسهولة ما نعرفه اليوم عن (العاطل) بمعنى الشخص الذي يجد نفسه دون عمل، ونجد استخداماً متواتراً يتعلق بـ (المرأة العاطل). وهي امرأة من دون حُلِيّ. عَطِلَتِ المرأَةُ تَعْطَل عَطَلاً وعُطولاً وتَعَطَّلَتْ إِذا لم يكن عليها حَلْيٌ ولم تَلْبَس الزينة وخَلا جِيدُها من القَلائد. وامرأَةٌ عاطِلٌ، بغير هاء، من نِسْوَةٍ عَواطِلَ وعُطَّلٍ؛ أَنشد القَناني (ولو أَشْرَفَتْ من كُفَّةِ السِّتْرِ عاطِلاً - لَقُلْتَ غَزالٌ ما عَلَيْهِ خَضَاضُ). وامرأَة عُطُلٌ من نسوة أَعطال؛ قال الشّماخ (يا ظَبْيةً عُطُلاً حُسَّانةَ الجِيد). فإِذا كان ذلك عادتها فهي مِعْطالٌ. المِعْطال من النساء الحَسْناء التي تُبالي أَن تَتَقَلَّد القِلادة لجمالها وتمامها [يا لمفردة المعطال ويا لدلالتها]. ومَعاطِلُ المرأَة هي مَواقِعُ حَلْيِها؛ قال الأَخطل (زانَتْ مَعاطِلَها بالدُّرِّ والذَّهَب) وامرأَة عَطْلاء لا حَلْيَ عليها. وفي الحديث (يا عَليُّ مُرْ نساءك لا يُصَلِّين عُطُلاً)؛ العَطَل هو فِقْدان الحليِ. وفي حديث عائشة إنها كَرِهَت أَن تُصلي المرأَةُ عُطُلاً ولو أَن تُعَلِّق في عُنُقها خيْطاً. وجِيدٌ مِعْطالٌ لا حَليَ عليه، وقيل العاطِل من النساء التي ليس في عُنُقها حَليٌ وإِن كان في يديها ورجليها. والتَّعَطُّل ترك الحَلْي. وفي الحديث عن عائشة في امرأَة تُوُفِّيت، فقالت (عَطِّلوها) أَي انزِعوا حَلَيَها واجعلوها عاطلاً.
ومن الفعل (عَطِلَ) أيضاً تقرأ أن العَطَل وهو تمامُ الجسم وطوله. وامرأَة حَسَنةُ العَطَل إِذا كانت حسنة الجُرْدة أَي المُجَرَّد [أي العُري والتعرّي]. وامرأَة عَطِلةٌ أي ذات عَطَل أَي حُسْن جسم؛ وأَنشد أَبو عمرو (وَرْهاء ذات عَطَلٍ وَسِيم). وقد يُسْتَعمل العَطَلُ في الخُلُوِّ من الشيء، وإِن كان أَصله في الحَلي؛ يقال عَطِلَ الرجلُ من المال والأَدب، فهو عُطْلٌ وعُطُلٌ مثل عُسْر وعُسُر.
ومن ذلك رجل عطل: لا سلاح له، وجمعه أعطال، وكذلك الرعية إذا لم يكن لها وال يسوسها فهم معطلون. وقد عطلوا أي أهملوا. وإبل معطلة: لا راعي لها. والمعطل: الموات من الأرض، وإذا ترك الثغر بلا حام يحميه فقد عطل، والمواشي إذا أهملت بلا راع فقد عطلت. والتعطيل: التفريغ. وعطل الدار: أخلاها . وكل ما ترك ضياعاً معطل ومعطل. وبئر معطلة: لا يُستقى منها ولا يُنتفع بمائها. والعطل: شخص الإنسان، وعم به بعضهم جميع الأشخاص، والجمع أعطال. يقال: ما أحسن عطله أي شطاطه وتمامه. وتعطيل الحدود: أن لا تُقام على من وجبت عليه. وعطلت الغلات والمزارع إذا لم تعمر ولم تحرث. وفلان ذو عطلة إذا لم تكن له ضيعة يمارسها. ودلو عطلة إذا انقطع وذمها فتعطلت من الاستقاء بها.
لن نجد ما نعرفه عن (العاطل) عن العمل إلا بإشارة مقتضبة أخيرة تقول: تَعطَّل الرجل إذا بقي لا عمل له، والاسم العطلة.
لكن البون يصير شاسعاً من حينها بين التعطُّل والتعطيل الآنفة، وبين العطالة والعاطل عن العمل الحالية.