شاكر لعيبي
قد يُدهش المرء قليلاً أن (الانتظار) و(النظر) في قاموسنا العربيّ من أصل اشتقاقيّ واحد. وهذا التعالُق من شعريات "لسان العرب". ففي اللسان التَّنْظارُ هو النَّظَرُ؛ قال الحطيئة (فما لَكَ غَيْرُ تَنْظارٍ إِليها - كما نَظَرَ اليَتِيمُ إِلى الوَصِيِّ)، والنَّظَرُ هو الانتظار. يقال نَظَرْتُ فلاناً وانْتَظَرْتُه بمعنى واحد، فإِذا قلت انْتَظَرْتُ فلم يُجاوِزْك فعلك فمعناه وقفت وتمهلت. كأن المنتظِر هو الواقف ينظر ما سيقع أو سيحدث أو أنه يتوقع شيئاً عبر فعل النظر.
ومنه قوله النص القرآنيّ "انْظُرُونا نَقْتَبِسْ من نُوركم"، قرئ انْظُرُونا وأَنْظِرُونا، فمعناهما انْتَظِرُونا أو أَخِّرُونا؛ وقيل معنى أَنْظِرُونا انْتَظِرُونا أَيضاً؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم (أَبا هِنْدٍ فلا تَعْجَلْ علينا - وأَنْظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا). تقول العرب أَنْظِرْني أَي انْتَظِرْني قليلاً، ويقول المتكلم لمن يُعْجِلُه (أَنْظِرْني أَبْتَلِع رِيقِي) أَي أَمْهِلْنِي. والعرب لا تقول نَظَرْتُ إِلى الشيء بمعنى انتظرته، إِنما تقول نَظَرْتُ فلاناً أَي انتظرته؛ ومنه قول الحطيئة (نَظَرْتُكُمُ أَبْناءَ صَادِرَةٍ لِلْوِرْدِ، طَالَ بها حَوْزِي وتَنْساسِي) وإِذا قلت نَظَرْتُ إِليه لم يكن إِلا بالعين، وإِذا قلت نظرت في الأَمر احتمل أَن يكون تَفَكُّراً فيه وتدبراً بالقلب.
وهنا، من جديد يربط اللسان النظر بعملية التفكُّر أي البصيرة. ومن ذلك قولهم فرس نَظَّارٌ إِذا كان شَهْماً طامِحَ الطَّرْفِ حدِيدَ القلبِ؛ قال الراجز أَبو نُخَيْلَةَ (يَتْبَعْنَ نَظَّارِيَّةً لم تُهْجَمِ) نَظَّارِيَّةٌ هي ناقة نجيبة من نِتاجِ النَّظَّارِ، وهو فحل من فحول العرب؛ قال جرير (والأَرْحَبِيّ وجَدّها النَّظَّار لم تُهْجَم) أي لم تُحْلَبْ.
فهل المُناظَرة أي المساجلة من ذلك؟ هي منه تماماً. فالمُناظَرَةُ أَن تُناظِرَ أَخاك في أَمر إِذا نَظَرْتُما فيه معاً كيف تأْتيانه. [كأن الأمر يتعلق بزاوية النظر إلى الموضوع]. ولا علاقة لها بالمنظر والمنظرة إلا قدر اتصالهما بعملية النظر. هنا نحن في المظهر الخارجيّ وليس التأمّل والبصيرة. فالمَنْظَرُ والمَنْظَرَةُ هو ما نظرت إِليه فأَعجبك أَو ساءك، والمَنْظَرَةُ مَنْظَرُ الرجل إِذا نظرت إِليه فأَعجبك، وامرأَة حَسَنَةُ المَنْظَرِ والمَنْظَرة أَيضاً. ويقال إِنه لذو مَنْظَرَةٍ بلا مَخْبَرَةٍ. والمَنْظَرُ هو الشيء الذي يعجب الناظر إِذا نظر إِليه ويَسُرُّه. ويقال (مَنْظَرُه خير من مَخْبَرِه). ورجل مَنْظَرِيٌّ ومَنْظَرانيٌّ حَسَنُ المَنْظَرِ؛ ورجل مَنْظَرانيٌّ مَخْبَرانيّ. ويقال إِن فلاناً لفي مَنْظَرٍ ومُستَمَعٍ، وفي رِيٍّ ومَشْبَع، ويقال لقد كنت عن هذا المَقامِ بِمَنْظَرٍ أَي بمَعْزَل فيما أَحْبَبْتَ [أي بعيداً عن منظر هذا]، وإِنه لسديدُ النَّاظِرِ أَي بَرِيءٌ من التهمة ينظر بمِلءِ عينيه.
فالنظر في كل ذلك ينطوى على العقل والتحكُّم والإرداة، وليس فعلا عفوياً أو غريزياً. ويتضمن الإعجاب كذلك، وهو فعل مقصود بصير. والإعجاب الأيروتيكي بشكل خاص، إذ تقول العرب (بنو نَظَرَى ونَظَّرَى) أي أَهلُ النَّظَرِ إِلى النساء والتَّغَزُّل بهنّ؛ ومنه قول الأَعرابية لبعلها (مُرَّ بي على بَني نَظَرَى، ولا تَمُرَّ بي على بنات نَقَرَى)، أَي مُرَّ بي على الرجال الذين ينظرون إِليّ فأُعجبهم وأَرُوقُهم ولا يَعِيبُونَني من ورائي، ولا تَمُرَّ بي على النساء اللائي ينظرنني فيَعِبْنَني حسداً ويُنَقِّرْنَ عن عيوب من مَرَّ بهن.
يصير جلياً أن عملية النظر واقعة في البصيرة والتأمل والتفكر، مثل تعلُّق عملية (البصر) بـ (البصيرة). وقد فرّقوا لهذا السبب بين النظر والنظرة الواحدة. فالنَّظْرَةُ هي اللَّمْحَة بالعَجَلَة؛ ومنه الحديث أَن النبيّ قال لعلي (لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فإِن لك الأُولى وليست لك الآخرةُ). والنَّظْرَةُ هي الهيئةُ. وقال بعض الحكماء (من لم يَعْمَلْ نَظَرُه لم يَعْمَلْ لسانُه)؛ ومعناه أَن النَّظْرَةَ إِذا خرجت بإِبكار القلب عَمِلَتْ في القلب، وإِذا خرجت بإِنكار العين دون القلب لم تعمل، ومعناه أَن من لم يَرْتَدِعْ بالنظر إِليه من ذنب أَذنبه لم يرتدع بالقول. ولعلّ هنا تلخيص لـ (جماليات النظر) وفق لسان العرب.
(ن ظ ر) مادة متعددة المعاني (polysémique) بطبيعتها الداخلية، ومنها معنى واقع في صلب الشعريات.