شاكر لعيبي
نعود إلى (لسان العرب من وجهة نظر شعرية) ورؤية التحوّلات المفهومية للمفردات، وانتقالها من التعبير عن (الحقيقيّ) إلى التَوسُّع (الاستعاريّ) العريض.
ثمة على ما يبدو فعلان منفصلان مختلفان، موضوعان تحت المادة نفسها في "لسان العرب"، الأول: بغى الشيء، ما كان خيراً أو شراً، يبغيه بغاء وبغى: طلبه. والثاني: باغت المرأة بغاء إذا زنتْ، خرجت المرأة تباغي أي تزاني. وباغت المرأة تباغي بغاء: إذا فجرتْ. لكن اللسان نفسه لا ينسى القول إن بغت المرأة تبغي بغاء: إذا فجرت، وهو بذلك يعود إلى المادة الأصلية (بغا).
وفي الأصل أن بغا، ينبغي: بغى الشيء بغواً يعني نظر إليه كيف هو. وبغى ضالته - وكذلك كل طلبة - بُغاء، بالضم والمد. وابتغاه وتبغاه واستبغاه: طلبه. والاسم البغية والبغية. بغى الرجل حاجته أو ضالته يبغيها بُغاء وبغية وبغاية إذا طلبها، والباغي: الطالب، والجمع بغاة وبغيان. والبغية والبغية: الحاجة المبغية، بالكسر والضم. يقال انبغى لفلان أن يفعل كذا أي صلح له أن يفعل كذا، وكأنه قال طلب فعل كذا فانطلب له أي طاوعه. وانبغى الشيء: تيسّر وتسهّل.
حسناً، لدينا الآن عَرَضاَ التفارُق الكبير بين دلالة الباغي أعلاه، ودلالة الباغي اللاحقة التي تدل على الواحد من البَغْي، وهم أهل البدع الذين يسعون بالفساد.
ثم ينقلب اللسان فجأة إلى بغية في الولد: نقيض الرشدة. وبغت الأمة تبغي بغيا وباغت مباغاة وبغاء، بالكسر والمد، وهي بغي وبغو: عهرتْ وزنت، وقيل: البغيّ الأمة، فاجرة كانت أو غير فاجرة، وقيل: البغيّ أيضا الفاجرة، حرة كانت أو أمة. وفي التنزيل "وما كانت أمك بغيّا". البغايا الإماء لأنهن كن يفجرن. يقال: قامت على رءوسهم البغايا، يعني الإماء، الواحدة بغي، والجمع بغايا. وقال ابن خالويه: البغاء مصدر بغت المرأة بغاء زنت، والبغاء مصدر باغت بغاء إذا زنت، والبغاء جمع بغي ولا يقال بغية. خرجت المرأة تباغي أي تزاني. وباغت المرأة تباغي بغاء: إذا فجرت. وبغت المرأة تبغي بغاء: إذا فجرت. وفي التنزيل "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء"، والبغاء: الفجور; قال: ولا يراد به الشتم، وإن سُمّين بذلك في الأصل لفجورهنَّ. ولا يقال رجل بغي. والبغية: نقيض الرشدة في الولد، يقال: هو ابن بغية، وأنشد:
"لدى رشدة من أمه أو بغية - فيغلبها فحل، على النسل، منجبُ".
ثم يعود اللسان مشدّداً على التواشج بين المعاني من جديد: البغي: التعدّي. وبغى الرجل علينا بغيا: عدل عن الحق واستطال. البغي الاستطالة على الناس، وقيل معناه الكبر، والبغي الظلم والفساد، والبغي معظم الأمر. وقوله "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، وأصل البغي مجاوَزة الحدّ.
وبين هذا وذاك هناك استعارات صافية مستلهمة من أصل الفعل، مثل: بغى في مشيته بغيا: اختال وأسرع. والبغي اختيال ومرح في الفرس. ولا يقال فرس باغ. والبغي: الكثير من المطر. وبغت السماء: اشتد مطرها، دفعنا بغي السماء عنا أي شدتها ومعظم مطرها، وفي التهذيب: دفعنا بغي السماء خلفنا. وبغى الجرح يبغي بغيا: فسد وأمد وورم وترامى إلى فساد.
القضية هي أننا نتمدّد مِنْ طلب الشيء إلى وجوب طلبه، ومِنْ طلب الحاجة إلى طلب المتعة (إذا كان البِغاء ممارسة حسية وليس تجارة).
لكن من الجائز أن يكون أصل الفعل باغت المرأة وتباغت (أي زنتْ وفجرتْ) من أصل لغويّ ساميّ عريق (أكديّ مثلاً) وَصَلَ إلى العربية بصيغة مشابِهة ومُقارِبة صوتياً للفعل بغيّ (وكلمة "البِغاء" تقابلها في العبرية كلمة "زينوت" وهذا هو الزنا العربية).
نحن نلاحظ في ذلك كله كيف يخرج الفعل بغا مما أراد التعبير عنه أصلاً (= عموم الطلب)، إلى تخوم مقطوعة الصلة ببداهة الواقع، وصولاً إلى تعبيرات أقرب إلى الحالة الشعرية، مثل الاختيال والمرح، والمطر الكثير، وفساد الجرح.
فهل من طبيعة اللغة، المعجم مثل هذه التحولات المثيرة؟ أم أن الاستخدام الاجتماعي للمعجم، بطبعه، يُنحّي ولا يقيم اعتباراً (لبداهة الحقيقي) لصالح مجازٍ قابعٍ في صلب المفردة، والتلاعب بها كما يتلاعب شاعر بالمفردات؟
هذا ليس سؤالاً متحذلقاً، طالما يمدّنا "لسان العرب" بالأمثلة التي تسمح، عن جدارة، بسؤال مثله.