شاكر لعيبي
طالما قرأنا التعبير "فاقد الشيء لا يعطيه"، فهل من درس آخر فيه؟ كتبنا هنا مرة أن هناك مشكلة اصطلاحية في التفريق عربياً بين (الحاجة أو الحاجيّة objet) و(الشيء chose)، وألمحنا أن المشكلة لا تمسّ فقط صعوبة ترجمة المفردتين الأوربيتين، إنما تقع في التباس الإحالات واضطراب المعنى، وهو أمر معروف جيداً في مدارس الفنون الجميلة في العالم العربيّ.
في الجذر اللاتينيّ، الشيء يعني (القضية، المسألة) على وجه الإطلاق: كل مسألة وكلّ قضية. وفي معجم لاروس يستخدم الشيء اليوم للدلالة على حاجيّة ملموسة في التقابُل مع الكائنات الحية، فالطاولة والكتاب من الأشياء. وهو يعني كياناً مُجرّداً، إجراءً، حدثاً، بياناً. ويعني الوضعية الحقيقية والأحداث والظروف (بالجمع). ويعني الشيءُ حاجيةً أو كياناً لكن في مقابل الاسم: كما في قولنا (الكلمة والشيء الذي تُعَيّنُه). وفي الفلسفة يعني الشيءُ كلّ ما يمكن أن يُوجد، وكل ما يُفَكَّر به.
لكن المقارَنة مع معنى (الشيء) في العربية، لا تقود إلى مناطق التفكير نفسها بالضرورة. ففي لسان العرب ثمة ارتباط غامض بين الشيء والـمَشِيئةُ، الإِرادة، والاسم الشِّيئةُ (وهذا ارتباط لا يُعتدّ به في يقيني)، والشَّيءُ: معلوم، وهو يَقَعُ على كل ما أُخْبِرُ عنه. وفي المعاجم الجديدة الشيءُ هو الموجودُ، والشيءُ هو ما يتصوَّر ويُخْبر عنه، والشيءُ اسم لأيّ موجود ثابت متحقّق يصحّ أن يُتصوَّر ويُخبر عنه سواءَ أكان حسِّيًّا أم معنويًّا (يُطلق على المذكَّر والمؤنَّث). وعند المناطقة الشيء قد يُقال على كلّ ما له ماهيّة ما (Quiddité) كيف كان، فإنّا إذا قلنا "هذا شيءٌ" فإنّا نعني به ما له ماهيّة ما. ويكون الشيء أعمّ من الموجود، ويقال على كثير مما يقال عليه الموجود وعلى أمور لا يقال عليها الموجود… إلخ.
ما يَشفّ عن ذلك، أن (الشيء) في العربية هو الموجود والمعلوم. وهي فكرة تتطابق في مكان ما مع فكرة الشيء الأوربية، وليست واضحة مثلها.
الأمر ليس بواضح في الاستخدام العربيّ. من هنا تبادُل الاستخدام العربيّ بين (الشيء) و(الحاجة، الحاجية)، بل أن (الشيء) في العربية يُستخدم غالباً للتعبير عن (الحاجيّة أو الحاجة objet) التي هي مفردة مُسْتحدَثة، فمفردة الحَاجَةُ في أصلها هي الحائجة؛ ما يفتقر إليه الإنسانُ ويطلبه. وهي تعبير عن الضروريّ مثل قضَى حاجَته، لا حاجةَ لي به.
وإذا استندنا إلى المفهوم الأوربيّ للشيء، ومفهوم المناطقة العرب بشأن الماهية، يتبين أن المفردة في التعبير "فاقد الشيء لا يعطيه" لا تشير إلى ما قد تشير إليه عادة عند سماعنا لها في عربيتنا، فالأمر يتعلق بالوضعية الحقيقة لماهيّة ما. الشيء هو الكيان المعلوم مقابل الاسم، من هنا عنوان كتاب ميشيل فوكو (الكلمات والأشياء). وإذا كان الشيء يُعبّر في الفلسفة عن كلّ ما يمكن أن يُوجد، وكل ما يُفَكَّر به، فإننا أمام مفردة تضرب في الوجود. مفردة وجودية إذا شئنا.
وإذا ما صحّ التأويل وفق هذين المفهومين للشيء، فالتعبير العربيّ الشهير "فاقد الشيء" يشير بالأحرى إلى فاقد الماهيّة، فاقد الجوهريّ، مُضيِّع الكينونة، المُلْتبِس بإدراك حقائق الأشياء في الوجود وبالنتيجة المضطرب في تسميتها، فكيف تُسمّي شيئاً لا تعرف ماهيته، وكيف تقف أمام كيان لا تدرك كنهه؟
وفي تقديري، لهذا التعبير دلالة داخلية مهمة، قد تفوت على بعضنا، أو قد فاتت لوقت طويل.