تميزت عهود الاستبداد التي تعاقبت على حكم البلاد بمصادرة إرادة العراقيين وعملت على ان تنوب عنهم في رسم وتقرير سياسة البلاد وفي التحكم بمصيرها ومستقبلها.
وكان لهذه المصادرة والإنابة ان تطول الدستور الذي ظل عرضة لإجراء تعديلات مستمرة عليه وألحق بعشرات القرارات والانظمة من دون أي رجوع او اهتمام بالرأي العام، وحتى من دون اتخاذ اية صيغة حتى وان كانت مزورة وشكلية لاستطلاع رأي الجمهور الا في الحالات التي تصب قسراً لإضفاء الشرعية على السلطة المطلقة وتكريس جبروتها لتظل البلاد ترزح تحت وطأة حالة طوارئ. مستديمة تتحكم بها قرارات وتشريعات جائرة.
إن مفاهيم من مثل سيادة الدستور والحريات العامة ودولة القانون والمجتمع المدني وفصل السلطات وسواها من مفاهيم الديمقراطية وقيمها، غدت من المحرمات التي اتخذت طابعاً جرمياً، ما حرم المواطن حتى من مجرد التفكير بها، ناهيك عن التجرؤ بالمطالبة بتطبيقها او التبشير بها.
من هنا تتأكد ومنذ الآن الطبيعة المصيرية لتكريس اعتماد قيم ومفاهيم ومبادئ الديمقراطية في كل الشؤون التي تتصل بإعادة البناء وبهيكلة الدولة العراقية المنهارة وبحقوق المواطنة الحرة التي تشكل جوهر العملية وروحها، لتتحول الى تقاليد راسخة في الحياة السياسية بكل فعالياتها.
ان المشاركة الشعبية في الحياة السياسية تكتسب اليوم اهمية استثنائية بفعل ما تشكله من قوة دفع واستنهاض ايجابية في هذه الظروف التي عقد الاحتلال فيها اللوحة السياسية كثيراً، وبات يتحكم في وجهة حركتها مما يضعف بالتالي مستوى هذه المشاركة وطبيعتها ويحول دون ارتقائها الى مستوى المهمات التي تواجه البلاد. برغم ان ظروف الاحتلال هذه توجب ان تكون هي نفسها دافعاً للعمل في هذا الاتجاه، حيث ينبغي تعديل اللوحة السياسية بالنضال السياسي الشعبي.
هكذا نرى الطريق الصحيح لتعديل ميزان القوى وهكذا تثقف الجماهير في مدرسة الكفاح الديمقراطي، وهكذا تعدل القيم التي سادت في عهود الدكتاتورية والاستبداد.
ان تفهم الامر الواقع هو جانب واحد من أي تحليل سياسي تقيمه القوى الوطنية في هذه المرحلة.
وتبدو تجربة مجلس الحكم مؤكدة لذلك، ان هذه الصيغة التي لم ترق لقوات الاحتلال جرى قبولها في النهاية عن طريق الاصرار على ان يكون للشعب العراقي الممثل بقواه الوطنية الصوت الاقوى والاكثر نفوذاً في اختيار الطريق السياسي المستقل.
ويستطيع المجلس نفسه ان يستفيد من هذه التجربة بغية تطوير صيغ عمله باتجاه تأكيد مفاهيم الديمقراطية وتأكيد قيمة المشاركة الشعبية، وتكريس مفهوم المواطنة الحرة، وتعطيل اية امكانية لهيمنة فرد او حزب او طائفة او تيار، وإقصاء أي مفهوم او دعوة تحت اية واجهة من شأنها إضعاف المسار الديمقراطي والتخلي عن الاهداف الاساسية لشعبنا في إقامة نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي.
ولعل ما يلاحظ ان الاوساط الشعبية الوطنية لم تخف تحفظاتها على الصيغ القائمة، سواء بتركيباتها أم بأسس تشكلها ومنها مجلس الحكم غير ان هذه الاوساط نفسها لم تربداً من ضرورة التفاعل ايجابياً مع المجلس بوصفه خطوة أساسية على طريق استعادة السيادة والاستقلال مروراً ببناء الهيكل الرسمي للدولة..
ان تلك التحفظات وهذا التفاعل وجهان متكاملان يعبّران عن صورة المشاركة الشعبية والاهتمام الشعبي من اجل ان يكون للمواطن رأيه وموقفه في ما حدث وما يحدث.
كما ان تشكيل المجلس نفسه لم يكن له ان يتحقق من دون الصراع والضغط الوطني الواسع الذي اسهمت فيه الاحزاب والحركات عبر إصرارها على رفض اية صيغة لا تحترم ارادتها كما اسهمت فيه الارادة الشعبية بالتظاهرات الجماهيرية، التي ساندت التوجهات ودعمتها.
وكذلك فتوى آية الله السيستاني التي حققت الى جانب جهد الوطنيين الآخرين هدفها بإيكال مهمة صياغة الدستور الى العراقيين انفسهم في إطار مجلس الحكم.
هذه المشاركات الشعبية والجماهيرية وبوصفها معبراً اولياً عن حجم التفاعل الشعبي مع قيم الديمقراطية تفرض فيما تفرضه على مشرّعي الدستور والقيمين على اقراره الانطلاق من قاعدة حماية الدستور لطبيعة النظام الديمقراطي المرتقب، وتأمين فهوم الانتخابات يحقق ارادة الشعب، ويحترم خياراتها في إقامة نظام يتعزز بالديمقراطية، ويقبل بالاختلاف وينتعش بالحوار