تزداد معاناة المواطنين اليومية، بسبب ضيق سبل العيش، قطاع الكهرباء، وشحة المياه، والبطالة، والانفلات الأمني. لكن ضعف اكتراثهم بتطويق هذه الأوضاع يزداد أيضاً، حتى يكاد يتحول إلى لامبالاة!
ومع إن هذه الظواهر، إنما هي انعكاس لواقع سياسي متردٍ، تجد حلولها بالسياسة، فإن النشاط السياسي “جماهيرياً” أخذ ينحسر ويتراجع، بعد التظاهرات والتجمعات وما كان يبدو أنها بوادر نهضة ويقظة للأغلبية الصامتة” التي أرهقها السكوت وزعزع إيمانها بقدرتها على مقارعة الظلم والجور.وهذه مفارقة لا تستقيم مع المرحلة الجديدة التي يراد لها أن تشكل “صدمة ديمقراطية” تؤشر لعهد تصبح فيه الأكثرية، المرجعية لكل السلطات ومركزاً للقرار السياسي، تجذب إلى الحياة السياسية النشيطة، ومواقع التأثير، حتى أولئك الذين لا هم سياسياً لهم، إذ بمساعدتهم تتحدد مصائر البلاد ومستقبلها ووجهة تطورها..
لقد شهدت الأسابيع 5التي أعقبت انهيار الدكتاتورية، إطلاق مبادرات ذاتية، وإطلاق منظمات أهلية، وحركات وجمعيات خيرية، ولجان حقوق إنسان وتجمعات عمالية وشبابية ونسائية، وهي ما يمكن أن تشكل حاضنة للمنظمات، غير الحكومية، لكنها سرعان ما فقدت وهجها وانزوت في مقرات جامدة.
ومن بين أسباب التراجع في الحركة الشعبية الضاغطة، تركيز الأحزاب على العلاقات فيما بينها ومع السلطة المدنية للاحتلال، وحصرها في صيغة مشاركتها في الحكم، ومواقع كل منها وتقاسم الحصص وتحديد النسب التي تم التوافق حولها في اجتماعات مغلقة ودون الاهتمام بإجراء أي شكل من استمزاج الرأي مع القطاعات أو الشرائح الاجتماعية التي يمكن أن تعبر بهذه الصيغة أو تلك عن توجهات الرأي العام العراقي.
وهي بهذا السلوك أهملت، أو لم تولِ الاهتمام الكافي برعاية التحرك الجماهيري واحتضانه وتطويره، والتفاعل معه، إرتقاءً به إلى مستوى المهام السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي يمكن أن تزج فيها وتلعب دوراً مؤثراً في إيجاد حلول لها.
وكما يبدو فإن التشكيلة الوزارية لم تخرج عن هذا النهج، إذ جرى البحث في آلياتها والمرشحين لها وتسميتهم بنفس الأسلوب.
إن إقامة نظام ديمقراطي فيدرالي تعددي، لن تتحقق باطلاق الشعارات، ولا بالمزايدات اللفظية، بل بالعمل على تبني نهج متكامل، ترتبط به إجراءات وتدابير ملموسة على شتى الصعد تفضي إلى إرساء الأسس الكفيلة بإقامة النظام الديمقراطي.
ومن بين عناصر النهج الهادف إلى الديمقراطية، تشجيع الحركات الديمقراطية بكل تجلياتها، واحتضان المبادرات الخلاقة في اطارها ورعاية فعالياتها، وابراز الإيجابي منها، وخلق آليات تحفز الإنخراط فيها، وهذا كله يستلزم مواصلة فضح وإدانة وعزل كل الممارسات والمظاهر المرتبطة بالنظام السابق وملاحقة حامليها.
لقد تفشت ظاهرة اصدار العشرات من الصحف والمطبوعات دون قيد أو شرط، وهي حالة إيجابية بوجه عام، لكنها لم تتحول إلى أدوات لإشاعة الديمقراطية وتكريس عن عناصرها وجذب المواطنين إلى ميادينها.
وعلى العكس من صحافتنا، تولت القنوات العربية التي كانت طيلة العهد السابق ضالعة في تسويق نظام صدام حسين، إعادة ضخ سمومها وتشويه لوحة الصراع في البلاد، ونشر كل ما من شأنه زعزعة الثقة بإمكانية نجاح شعبنا في تحقيق طموحه بإقامة الديمقراطية والخروج من المآزق والأزمات التي دفعته إليها الدكتاتورية، والاحتلال.
والمهم بعد كل هذا أن نباشر التقاط أبجديات المرحلة الجديدة، وليس فيها ما يستحق التشكيل قبل أي استحقاق آخر .. الديمقراطية التي لن تكتسب أي محتوى أو أهمية، دون استنهاض من يطلقها ويرسي أسسها الوطيدة.