من الحكم الذاتي إلى الفيدرالية
قد يبدو للبعض أن قيادة الشعب الكردي مولعة بتصعيد مطالبها، وإنها تسعى اليوم للاستفادة من ظروف الأزمة المستفحلة بالبلاد،
وغياب الدولة والسلطة المركزية لفرض إرادتها على الآخرين، دون مراعاة المتطلبات الأخرى التي تواجه العراقيين.
لكن ما تجهله الأوساط الشعبية الواسعة التي كانت مغيبة عن المشهد السياسي ومجرياته، تلك الحقائق الدامغة التي كانت وراء تحريك شعارات الحركة القومية الكردية والقوى الديمقراطية، وبشكل خاص في العقود الثلاثة الأخيرة.
ومن تلك الحقائق أن الشعب العراقي بكل مكوناته وليس الشعب الكردي فقط، استقبل اتفاقية 11 آذار 1970 باحتفاء لا مثيل له،
واعتبر الحكم الذاتي الذي وعدت بتشريعه الاتفاقية مرحلة نوعية في تعزيز وترسيخ وحدة الشعب العراقي بركنيه الأساسيين العرب والكرد والقوميات المتآخية الأخرى، وتكريساً لوحدة العراق.
وما يستكمل الحلقة الضائعة من الحقيقة المذكورة، أن تشريع قانون الحكم الذاتي عام 1974، اقترن بتفريغه من أي محتوى يحقق للكرد إرادتهم في إدارة اقليمهم الكردستاني - العراقي عبر سلسلة من عمليات التعريب والتبعيث، وتعريض الكرد إلى حملة إبادة جديدة لم يتورع النظام خلالها من استخدام السلاح الكيمياوي في مراحل منها، وكل ما تفتقت عنه العقلية الجهنمية لصدام حسين.
ومما يكشف الطابع الديما غوغي لبعض المتصدين لتفنيد المطالب القومية العادلة للشعب الكردي في هذه المرحلة، التجاهل المتعمد لظروف وأسباب تطوير الشعار المركزي للأحزاب الكردستانية، والتي لم يكن دافعها تصعيد مفتعل للمطالب كما تزعم القوى المذكورة، بل لضمان تحقيق وديمومة أي مكسب جدي يستجيب ويلبي طموحها، ودائماً في إطار عراق ديمقراطي موحد.
ولتأكيد هذه الحقيقة لابد من الإشارة إلى أن شعار الحكم الذاتي الذي ظل مرفوعاً طيلة عقود، طور إلى شعار “الحكم الذاتي الحقيقي لكردستان والديمقراطية للعراق” أملاً في أن يصبح الحكم الذاتي واقعاً معاشاً وليس بلا اي محتوى أو ركائز من خلال نهج التعريب والتبعيث.
وخلال ذلك كله لم ينقطع ممثلو الشعب الكردي عن اعتماد وسيلة التفاوض والحوار، حتى في تلك الأوقات الصعبة التي كان النظام الفاشي يلجأ فيها إلى استخدام كل وسائل التدمير والقتل والتخريب في كردستان،..
ولأن كل الجهود باءت بالفشل، ولم تنتج سوى المزيد من الدمار والتضحيات، وارتباطاً بتصاعد مغامرات الدكتاتور التوسعية وبلوغه نقطة اللاعودة بغزوه دولة الكويت وقمعه الذي دفع أكثر من مليون مواطن كردستاني في عز الصقيع إلى الوديان والجبال وخارج حدود العراق، لم تجد الحركة القومية الكردية، وبالاعتماد على إرادة الشعب الكردي الذي تمثل في البرلمان المنتخب عام 1992 خياراً أمامها سوى تبني شعار الفيدرالية، في مواجهة الإبادة المنظمة من ناحية، وفي محاولة لتهدئة خواطر الجماهير الكردية ونزعات الدعوة للانفصال التي غذتها بعض الأوساط المتطرفة ذات النزعة الإرادوية.
وبهذا المعنى فإن تبني برلمان كردستان العراق لشعار الفيدرالية، جاء لتأكيد وتكريس وحدة العراق، ووحدةالشعب العراقي، وليس لدفع البلاد إلى متاهات الانفصال، كما تزعم الأوساط المعادية لتطلعات الشعب الكردي القومية، وطموحات الشعب العراقي الديمقراطية!
ومن الحقائق المغيبة أيضاً أن ممثلي الكرد سواء في إطار الجبهة الكردستانية التي ضمت كل أطياف الشعب الكردي، أو قيادة الحزبين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، لم تنقطع عن مساعيها للوصول إلى حل عادل عبر اللقاء والتفاوض مع النظام البائد حتى وقت متأخر، بالرغم من بحر دماء شهدائها التي كانت تخوض فيه وصولاً إلى الآخر، حرصاً منها على تجنب المواجهة، وتغليب المشترك، وإقراراً منها بأن الحل يأتي من بغداد عاصمة العراق!
ولمن لا يريد إدراك الحقيقة، أن يدرك،.. أن فرصة تاريخية نادرة وفرها صدام حسين للشعب الكردي، حين سحب كل جهاز الدولة الإداري من إقليم كردستان، وكان بإمكان القيادة الكردية، تكريس كل ما من شأنه وضع البلاد أمام الأمر الواقع، بإقامة كيان كردي مستقل، وما جرى عكس ذلك تماماً، إذ حافظت الإدارة السياسية للإقليم على كل القوانين والأنظمة والمؤسسات بطابعها العراقي، بعد أن شذبتها من أدران النظام وقرارات وقوانين “مجلس قيادة الثورة”، وظلت وزارات الإقليم على ارتباطها مع الوزارات والمؤسسات المركزية حتى في ظل المواجهة وحملات الإبادة.
فهل تدلل هذه الحقائق الدامغة على أن الشعب الكردي وممثليه هم دعاة انفصال، أو هم مولعون بتصعيد المطالب؟
وهل تعكس هذه الحقائق رفض الكرد للحكم الذاتي في ظروف إعلانه، طمعاً في تهيئة متطلبات المواجهة والإنفصال، أم إن الدكتاتوريات المتعاقبة منها، وصدام حسين بوجه خاص، كانت تسعى لتجريد الشعب الكردي من أي إمكانية للدفاع عن حقوقه ومواصلة نضاله في سبيل هذه الحقوق؟
وإمعاناً في هتك الحقيقة التي يتلاعب بها مغامرون جدد، يتوهمون بأن عراق ما بعد صدام حسين قد يمكنهم من التسلط على مقدرات البلاد، ولو من باب دغدغة المشاعر الشعبوية والتلويح بإخطار مزعومة على الديمقراطية، لابد من التأكيد على أن جميع إطراف ما سميت بالمعارضة وطوال سنوات التسعينيات، كانت تعيب على القيادة الكردية وتتهمها بالنكوص عن أهدافها لا لأن هذه القيادة كانت تعمل من أجل تكريس نزعة الانفصال وتحويل الأوضاع الاستثنائية في إقليم كردستان إلى كيان مستقل، بل لأنها كانت تقبل مبدأ التفاوض مع السلطة المركزية لعله يؤدي إلى وضع يسمح بحل أزمة البلاد سياسياً!
(يتبع)