TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > المصالحة الوطنية والديمقراطية (3-4)

المصالحة الوطنية والديمقراطية (3-4)

نشر في: 20 يناير, 2004: 07:18 م

المراجعة والنقد الذاتي

انتصرت ثورة 14 تموز 1958، لكن ظهيرها السياسي جبهة الاتحاد الوطني، إنهارت بعد بضعة أشهر. وأدى انفراط عقدها إلى افتراق دموي خلف طوال خمسة عقود زلازل سياسية مدمرة،

وتشوهات بنيوية في جسد الحركة الوطنية وتفسخاً في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية أوصلت البلاد في نهاية المطاف إلى ما نحن فيه اليوم من انهيار بنيان الدولة واحتلال وحرائق لا يبدو إنها ستخمد قريباً.

كانت جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت إلى صفوفها، التيار الوطني الديمقراطي، والقومي العروبي، والشيوعي، واستثني منها بدافع ضيق الأفق القومي التيار القومي الكردي، صيغة جبهوية هشة، لامست سطح القضايا الوطنية الكبرى، وتجنبت الخوض في تفاصيلها العقدية، وخاصة تلك التي تتعلق بديمومة العمل المشترك وبرنامج التطور السياسي الاقتصادي الاجتماعي للثورة.

ورغم الأهمية التاريخية لاسقاط الملكية وحلف بغداد وإخراج البلاد من منطقة النفوذ الاستعماري، والانخراط في النضال العربي المناهض للاحلاف العسكرية وفي سبيل التحرر والانعتاق، إلا أن التحول من الملكية إلى الجمهورية، ومن الهيمنة شبه الاستعمارية شبه الاقطاعية إلى الاستقلال والإصلاحات، ولأسباب وعوامل واعتبارات، فتح باب جهنم على العراقيين، التهم الملايين من أبنائهم والمليارات من ثرواتهم، وعصف بخياراتهم، ولا يبدو أن نيرانه ستخمد قريباً!

قد لا يفيد التحليل الاستعراضي المبتسر في تعرية وكشف العوامل والأسباب التي كانت وراء إنهيار جبهة الاتحاد الوطني أو تحديد مسؤوليات أطرافها، التي تحولت من مواقع التحالف والعمل المشترك، إلى خنادق الصراع الدموي الكاسر.

لكن اللافت أن تفجر هذا الصراع والتحول الدراماتيكي، في وجهته من التعاون إلى المواجهة بين التيارات الوطنية الكبرى، ارتبط باللحظة التأريخية نفسها، التي وضعت البلاد - نظرياً - أمام خيار الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، (وهو ما يشبه اليوم من أوجه عديدة)!

وبدلاً من الانطلاق منها لتحقيق آمال وطموحات الشعب العراقي، أصاب وهج الانتصار الصاعق، أطرافها بأوهام الاقتدار على الانفراد بالسلطة والاستفراد بالآخرين ونفيهم وإلغائهم كشرط لتحقيق الشعارات الكبرى!، ولا بأس في اللجوء إلى التصفيات إذا اقتضى الأمر ذلك.

وهكذا دشن الأخوة الأعداء، تأريخ الاستباحات الكبرى، وتكريس جذور الاستبداد، فأصبح سفك الدم العراقي قرباناً مباحاً ورخيصاً لأوهام البعض، ومداداً لكتابة تأريخ العراق الحديث.

****

لا ريب ان التأريخ لن يغفر أو يعفي أي تيار أو حزب من الأحزاب التي خوّضت في الصراع من المساءلة. وليس مهماً من كان البادئ أو المتجني. كما لن يغفر للمتدخلين العرب تشجيعهم نحر العراقيين وإفشال تجربتهم، فداءً لمطامعهم التوسعية تحت شعارات براقة لم تزكها الحياة، بل وعاقبهم التأريخ على هشاشتها وعقمها.

لكن الواقع المرير الراهن، بكل تفاصيل مشهده الدراماتيكي، إنما هو فصل الختام للجدل الدائر منذ عقود حول من تقع عليه المسؤولية التأريخية عما أصاب الشعب من كراهة، وتعرضت له البلاد من دمار وخراب وكوارث واحتلال.

لقد تجلت بصيغة مضللة مظاهر الصراع ومضامينه، بين الأطراف السياسية وقياداتها طيلة العقود الخمسة التي أعقبت ثورة تموز 1958، كما لو أن هذا الصراع ايديولوجي بحت بين التيار القومي العروبي والتيارات الأخرى.

لكن مجرى الصراع بتجلياته وكيفياته ونتائجه على الصعيدين الداخلي والعربي، أكد بوضوح ساطع بطلان هذا الزعم وخطأ مثل هذا الاستنتاج وحقيقة طابعه المخادع.

فالصراع الذي تحددت ملامحه بقسوة منذ انقلاب 8 شباط 1963، شكل نقطة تحول جذرية نحو الانحدار والانحطاط السياسي وتكريس الاستبداد ومد جذوره في المجتمع والحياة السياسية.

ولم يكن صدام حسين ونظامه سوى النتاج المتكامل لتلك اللحظة ولتطورها التأريخي.

والمراحل التي تتابعت منذ ذلك التأريخ الأسود بلورت وطورت مشروع النظام الاستبدادي واستكملت حلقاته بسلسلة مترابطة من التصفيات الدموية وبكل وسائل العنف لكل الحركات والتيارات والأحزاب، ولكل مظهر إنساني.

ويكفي إنها لم تقتصر على الحزب الشيوعي والأحزاب والحركات الديمقراطية، بل تجاوزتهم إلى القوميين بشتى مشاربهم من ناصريين ومستقلين وحركيين قوميين، بل وهذا هو المهم لتوضيح الصورة وإزالة الالتباس أجهزت على كيان البعث نفسه وأفرغته من أي محتوى له علاقة بشعاراته وتوجهاته الوحدوية، وسفكت دم قياداته وكوادره، وانتزعته من أصوله التأريخية، وحولت حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق إلى واجهة لزمرة فاشية، وعشيرة سياسية متفسخة، ثم إلى عائلة وطاغية لا توصيف إنساني أو سياسي له.

وانتهى الحزب في نهاية المطاف إلى مجرد أداة وحشية للاستبداد والنظام الشمولي.

ويخطيء من يظن أن الحزب العراقي الذي اندمج وتوحد مع صدام حسين واكتسب منه شرعيته وملامحه وصفاته وتلبسته قيم الاستبداد وممارساته ومفاهيمه فرع من أي شجرة طيبة!

****

إذا لم تكن المسؤوليات التأريخية للأحزاب في التمهيد لدفع البلاد نحو هذا المشهد المأساوي، على مستوى واحد من الخطيئة.. فإن المناخ الذي أفرزه نظام الاستبداد وردود الأفعال إزاء سياساته ونهجه أشاع لدى الآخرين اساليب وممارسات وقيماً تشكل كل منها معابر لمشاريع وصيغ مستحدثة منه، إن تحت واجهة “القومية” أو “الدين”، أو حتى “الديمقراطية”. وإذا كان نظام الاستبداد البائد استمد جذوره الشكلانية من “التخوين”، فإن الصيغ الجديدة قد تستمدها من التكفير والتحريم!

إن العمل لاجتثاث جذور الاستبداد، وإيقاف دورة العنف والعسف والتصفيات وإلغاء الآخر، والانفراد بالسلطة والنزوع نحو شمولية جديدة طاغية، تستلزم من جميع الأحزاب والقوى والتيارات دون استثناء، إجراء مراجعة جريئة ونقد ذاتي عميق يقود إلى استئصال أي مفهوم أو قيم أو ممارسات أو ارث للاستبداد.

وبذلك فقط نحول دون إمرار مشروع جديد للاستبداد أو ترخيص لمستبد عادل

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram