اجتثاث الاستبداد”!
يجرد النظام الشمولي المجتمع وأفراده، كما يجرد الدولة ومؤسساتها، من تعبيراتها الإنسانية والقانونية، ومن قدراتها على الفعل أو القرار،
ويختزلها الطاغية المستبد في “وحدانيته المطلقة” التي تصبح هي مركز القرار والابتكار والإلهام. وفي لحظة تسيّده تفقد كل المراكز والمواقع والأسماء والصفات قدرتها على الحركة أو الإيحاء أو الفعل، وتستعير منه ومن إرادته مضامينها الاعتبارية والمعنوية، والهامش المحدود من القدرة التي تكفي بالكاد لإبداء الولاء والطاعة مثل أية آلة عمياء - خرساء بلا روح!
وخلال ثلاثة عقود ونيف، صادر صدام حسين حزب البعث العربي الاشتراكي وجرده من أي إرادة للفعل، وهمش دوره، وحوله في نهاية المطاف إلى مجرد أداة خنوع، لا حول له ولا قوة، وظيفته الوحيدة تنفيذ إرادته ونهجه وسياساته بلا قيد أو شرط.
وقد انجز عملية التحول هذه على مراحل عدة وفي مجرى تصفيات دموية، وانشقاقات غير مرئية، وانسلاخات، تشابكت وترافقت مع تجريد الحياة السياسية من أي طيف عبر عملية أكبر وأوسع وأشد شراسة وقسوة وعواقب، عرفت “بالتبعيث”.
وفي ظل “التبعيث” أصبح كل مواطن عراقي رهينة لدى أجهزة النظام ومؤسساتها، وأياً كانت صفاته الحسنى فإن رصيده يظل صفراً، إذا أراد الدراسة أو العمل أو السفر أو ممارسة أي نشاط يحتاج إلى اذن أو موافقة جهة رسمية، ولا شفيع له في كل ذلك سوى توصية من حزب البعث أو بطاقة العضوية فيه!
إن “صحوة الضمير “ أو “اكتشاف الحقيقة” أو “الاختلاف” أو “التعفف عن النشاط الحزبي” “بالنسبة للمنتسبين إلى البعث الحاكم، لا مكان لها في قاموس النظام وهي مجرد مفردات ميتة، عقوبة كل منها الإعدام بتهمة الارتداد والخيانة!
“فالبعثي” أسير ورهينة، مثل أي مواطن أو أكثر من أي مواطن، وليس أمام من يريد اكتشاف حقيقة انتمائه أو امتحان ولائه سوى التزام الصمت وعذاب الضمير.
ومن مئات آلاف المنتسبين إلى حزب البعث الحاكم، يعرف ويميز المواطنون، أولئك الذين استمرأوا أدوارهم كأدوات للملاحقة والقتل والتعذيب “وتأليه القائد” “وتقديس” سيرته وافتدائه. وهم زمر يغلب على وجوههم وصفاتهم سمات الشقاوة والجريمة وانعدام الضمير. وهؤلاء مكانهم قفص الاتهام يكفل القانون محاكمتهم والاقتصاص منهم. والمحاكمة ليست مجرد قصاص، بل فضح للجريمة وتبشيع لها ودعوة المجتمع لمعالجة أسبابها وتصفية جذورها وعزل مرتكبيها أخلاقياً. وقتل المجرم لا محاكمته مصادرة لحق المجتمع في الاقتصاص منه، وتغيير لموقعه من مذنبٍ ينتظر الإدانة والتجريم إلى ضحية يثير الالتباس والمساءلة.
والديمقراطيةلا تتحقق إلا بسيادة القانون وترسيخ تقاليده وأعرافه وأدواته.
إن استهداف القيم والأساليب والتقاليد التي كرسها صدام حسين في المجتمع وفي حزب البعث لا تعالج بقوانين أو بتعهدات شخصية أو ما عرف بتقديم “براءة” من الحزب، بل بالوسائل السياسية. ووجهة النشاط لإنجاز مهمة بهذا المستوى من الخطورة والأهمية التاريخية تحتاج إلى مراعاة دقيقة تضع هدف لها إجراء عملية فرز في صفوف حزب البعث، بل وفي المجتمع أيضاً، تتشكل من خلالها اصطفافات جديدة، تؤدي إلى تحييد أو كسب أو فك ارتباط الجمهرة الواسعة من المغلوبين على أمرهم ممن قادتهم الحاجة أو انتهاز الفرصة والوصولية أو ضعف الوعي والحظ العاثر إلى صفوف الحزب الحاكم، والعمل سياسياً وفكريا عبر الحوار والتفاعل وبالاستناد إلى الحقائق والشواهد العيانية إلى عزلهم عن المتبعثين، وشذاذ الآفاق وقاع الرذيلة من المنتسبين إلى الأجهزة القمعية، مرتكبي التعذيب والقتل الوحشي والوشاة المتطوعين وأعضاء الحزب الموالين لصدام المؤمنين بفكره ونهجه وأساليب حكمه والمبرريين لجرائمه والمنظرين لها.
إن من شأن هذا الفرز أن يسهم في رص صفوف المجتمع ويعيد الاعتبار للبعثيين المعارضين الذين كانوا هم أيضاً ضحايا للنظام، وكان البعض منهم حلفاء في المعارضة، ناضلوا في صفوفها لاسقاطه.
ولا بد من اعطاء فرصة لكل هؤلاء لكي يتنبهوا ويكتشفوا بأنفسهم وبوعي ذاتي، المأزق الذي قادهم إليه الطاغية، لعلهم يعيدوا النظر ذاتياً ودون إكراه أو ترهيب في تقييم تجربتهم الحزبية، ويستكشفوا بأنفسهم استحالة الفصل بين آثام النظام البائد وأرثه الإجرامي الثقيل، وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان في الواقع والتطبيق العملي أداة طيعة للاستبداد. وهو ما يضع الشرفاء منهم والمبرئين من لوثاته أمام ضرورة البحث عن مخرج يطاول الشكل مثلما يمس المضمون. وإذا كانت الصحوة واليقظة كافية لاقناعهم بالتخلي عن الشكل فإنها كفيلة بتخليهم عن المضمون.
إن مثل هذا التقييم وما يرافقه من تجديد يضعهم أمام مهمة العمل مع كل القوى لبناء نظام ديمقراطي منزه من أرث الماضي وتقاليده وقيوده.
إن التخلي عن البنى التنظيمية والفكرية والسياسية التي لم تنتج سوس نظام نموذجي للشمولية والاستبداد والطغيان ممارسة طبيعية في الحياة الداخلية لأي حزب يتعرض للهزات والخلل فكيف إذا كان المقصود حزباً ارتبط اسمه وتأريخه بكل هذا الخراب والدمار والمأساة التي حلت بالبلاد . وفي كل الأحوال لا يمكن النظر لمن ينهض بهذه المهمة إلا أن ينظر إليه باعتباره عميق الشعور بالمسؤولية والاستعداد للتضحية والرغبة بالتواصل الإيجابي لخدمة الوطن.
إن إدانة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق إنما هي تجريم وعزل وإدانة لتاريخ موصوف اقترن في وجدان العراقيين باسماء عفلق - البكر - صدام حسين. وقد تحول إلى بضاعة فاسدة ونفاية لا يجدر بأي “مناضل” يسعى لاستنهاض شعبه وأمته الانتساب إليه أو حمل اسمه، ناهيك عن التفاخر به أو بتأريخه الدموي.
إنه موقف صعب دون شك لمن ارتبط تأريخه وحياته باسم هذا الحزب في العراق، لكن الصعوبة الأكبر هي في التعامي عن الحقيقة المرة التي تمثلها حصيلة حكم هذا الحزب.
والمحك الحقيقي بالنسبة لـ “المناضل” اياً كان فكره أو عقيدته، إنما هو اختبار لشجاعته وجرأته في مواجهة الحقيقة والإقرار بنتائجها!@
***
من كل ذلك يبدو أن المشرع أخطأ السبيل إذ أراد إدانة الاستبداد واجتثاث جذوره فاستعاض عن السياسة التي هي بطبيعتها معقدة وشائكة باللجوء إلى القانون.
وهكذا جاء قانون “اجتثاث البعث” كإملاء ثقيل على الضمير، وكشعار دعاوى ينطوي على التعسف، ويخلو من أية نزعة ديمقراطية. فهو يستهدف التنظيم بدلاً من النهج والرؤى والتأريخ الموصوف، ويستعيض عن التثقيف والتوعية بالتسطيح والاجتثاث التعسفي.
وكان الأكثر تعبيراً عن إدراك جوهر العملية المطلوبة استبداله بقانون “اجتثاث الاستبداد”.
إن الاستناد إلى القانون اجراء إداري لا سياسي، يعتمد استعادة الولاء الشخصي الشكلي، عبر انتزاع البراءة الفردية، بدلاً من إطلاق عملية مصالحة تعبئ المجتمع بكل شرائحه وبضمنهم المنتسبين الذين لم يقل أحد أنهم جميعاً موالون لصدام، ملوثون بالجريمة، ضد المقابر الجماعية والحروب والقتل والتعذيب والكوارث، وهي عملية تقود إلى فضح النظام الاستبدادي وتحض الناس ضده.
ولا زال في الوقت متسع لتنظيم مثل هذه العملية التي يراد بها “اجتثاث الاستبداد”.
ومثل هذه العملية يمكن أن تتحول إلى عمل وطني مشترك لبناء العراق الجديد....، العراق الديمقراطي