اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > نزيهة الدليمي..زمن التوهج والانطفاء

نزيهة الدليمي..زمن التوهج والانطفاء

نشر في: 1 نوفمبر, 2007: 08:47 م

 فخري كريم

عاشت نزيهة الدليمي، دون ارادة منها،مرحلة تحولات كبرى،جمعت تناقضات عصر ملتبس، مكفوف، متمرد، تداخلت فيه الآمال والخيبات،وبدا احيانا وهو في صعوده، كما لو انه عصر تصفيات وانتقام!

ما ان هلّ، طاويا قرن الشك والاكتشافات والافكار العظيمة، القرن التاسع عشر، حتى تناثرت سنواته صعودا وانحداراً.

كالغليان كان ينفث اعاصير تهدّ اليقين في الفكر، والعروش في السياسةِ والاختراعات في العلم، وفي كل الجهات كانت الانفاس تتقطع وهي تلاحق غير المالوف.

واذ اغرق القرن الجديد نفسه في مواجهات وحروب وثورات، انسلخ العالم، وتفصد الى عالمين متناقضين، بينهما المسافة التي تفصل بين اليقين والشك، والامل والخيبة.

عالم يبشر واخر يتوعد . بشر ينتشرون مثل نعيم في كل الاصقاع، يتنسمون فضاء جنة موعودة على الارض . تقابلهم ارتال شبحية يستجمعون القوى ويتوعدون بالحريق، كانت سنة ولادة نزيهة الدليمي على خط التماس بين الوعد والتوعد، بين الشك واليقين، بين الامل والخيبة.

فلم يكن قد مضى وقت طويل على انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، فالحرب الاهلية التي استهدفتها والحصار حولها من كل صوب والاستنزاف بداخلها، كانت كلها قد وهنت وتراخت اطرافها وبدت كما لو انها في حالة استسلام.

لكن شبح المجاعة والازمات والنذر السوداء كانت تحوم حول العالم، تقارع اليقين بالشك، وتثير هواجس وامنيات .

ومن فضلات الحرائق ورمادها، وفي زاوية من اقبية البيرة في بافاريا الالمانية، ظهر رجل يزأر ويزمجر ويتهدد العالم حين يمسك بخناقه ويشعل فيه نيران الجحيم.في وقت ما من عام 1923 عام ولادة نزيهة الدليمي الفاصل بين عالمين، كان "عقلاء" تلك المرحلة يستهزئون ويسخرون من صورة مجنون يعربد وهو يحمل صليبا معقوفاً، يقدم مشهداً كوميديا ً عرفوا من صحفهم المحلية ان اسمه هتلر اختار حانة بيرة في بافاريا ليخطب فيها ويهدد العالم منها. وكان ان تحققت نبوءته بعد سنوات وجر العالم الى ابشع جريمة في التأريخ الحديث، حيث ضاعت سخرية "العقلاء" في اتون مكابداتهم، واوهامهم وسذاجة تصوراتهم!

يومذاك لم تنتبه نزيهة دون شك لانها كانت تسبح في فضاء الله تنتظر الانبثاق المبهر، ان زئير حانة البيرة وعربدة صاحبها سرعان ما سيلوّع حياة شعبها كما ستعيش تالياً مآسيها كما شاء لها الحظ، اذ لم تكن هي حتى بعد ان كبرت وحان حراكها قادرة على ان تتصور وطنها نفسه وقد اصبح اسيراً شبيهاً بذاك المعتوه متفردا مختلاً مثل هتلر طلع عليه من قمامة ازقة التشرد وحثالات الجريمة .

قد تكون الدكتورة عقدت مقاربة مضنية بين عام ولادتها في 29-10-1923 وعام بداية انسلاخ الوطن من العراق في 8 – شباط- 1963!

الأمل والبشارة

شهد عام 1923 كما علق في ذاكرتها من حوادث التاريخ، صعود الامل والبشارة، بتقدم انساني في الشرق نحو مشارف عدالة لاتضني من انهكهم الكدح والعطاء،تقيهم من عسف الاستغلال وعنت العبودية الطبقية، وتفتح لهم كوة مضيئة في مسيرة البشرية نحو الانعتاق والحرية والمساواة.

كان ذلك الامل يتدفق بقوه المثل والالهام، من روسيا التي كسر مُستعبِدوها المستضعفون، رتابة اصطفاف بني البشر في ثنائية منتج القيمة وسارقها، وخرافة ابدية العلاقة بينهما باعتبارها نهاية التاريخ .

والمصادفة السعيدة، التي كان لها ان تسم ولادة نزيهة ايضا، ويسري في عروقها ويلازم حياتها وهي تتفتح وتنضج، انبثاق بوادر الامل، في موطنها، كصدى للامل الآتي من الشرق البعيد، او كارهاصات لتململات وجدت طريقها الى رهط من المثقفين العراقيين، وهم يتابعون بشغف وقلق، ملامح دولتهم الوليدة، والاجنبي وهو يتمدد في كنفها، ويقدم نفسه، كفاعل خير وواهب نعمة،يستكشف بواطن الارض ليتدفق منها الذهب الاسود، يبني السكك الحديدة، ويرسي بنيان صناعات ومعامل وموانئ وتجارة . لكن هذا الاجنبي اذ يفعل ذلك، كان يتبدى لهؤلاء المغامرين في دروب الفكر والحرية، مجرد قًيمّ متسلط مستغل، وتتضح لهم معالم دولتهم التي تكونت على خلاف ارادة أهلها، وقد اصبحت منذ ولادتها اسيرة استعباد جديد.

كانت نواتات الحركات والرواد الاوائل للوطنية العراقية في طور التكوين :- جماعة الصحيفة ومؤتمر كربلاء والحلقات الماركسية والتجمعات النقابية، وارهاصات المنظمات المدنية.

وفي ذلك العام، او ما تلاه من اعوام، خرجت انبل نسائنا واجرأهن في تحد متفوق على الجهل والتخلف، كاشفات عن اشراقة وجوههن التي لم يخلقها الله الا لتتوحد مع النور والضياء.

لقد اختزل العالم في عام ولادتها، والاعوام التالية، الزمن والمسافات، واخترق ميادين في سائر العلوم، وفي خلايا الدماغ البشري، وفي اعماق النفوس. ورأى الناس معجزات الابتكار والخلق الانساني، وهي تطير، وتخترق الاثير.

وعاش الناس زمن الطائرة، والتلفون، والراديو، والسينما، واستكشاف اسرار النجوم السحيقة البعد، واعماق البحار والمحيطات والغابات، وانحسرت مخاوفهم من الوباءات التي فتكت بهم طيلة قرون.

في سنوات تكون نزيهة وهي تحبو، كان العراق يزدهر ويزهو بعظمائه.. شعراء افذاذ، الرصافي والزهاوي والصافي والجواهري، ورهط لاعد له من المبدعين، كتابا وفنانين وقادة رأي.

كان العراق يومها اسرة واحدة، وإرادة تختزل هموم العراقيين، دون تمييز بين طائفة وعرق ودين وقومية وعقائد واطياف وتجسد تطلعاتهم، وتعبر عن جسارتهم في المطالبة بالحقوق والاماني المؤجلة.

لكن عام 1923، لم يرهق ذاكرة نزيهة، او لم يكن ذلك ممكنا لانها لم تكن بعد قد رأت النور... بما حمل من نذر سوداء لعالمنا المتخيل.

وتوالت، مشاهد التطور والنمو والرخاء وهي تترافق مع الانهيار الاقتصادي ونهب المستعمرات، والانحدار نحو هاوية الحرب.

جيل الأمل والخيبات

وفي رحم التناقض الذي كان يتفجر، اكتملت قامة نزيهة الدليمي، وحسمت خيارها، وتلاقت مع تباشير الامل الذي كان يزداد اشعاعه، ويسطع في سماء العالم، كبديل عن الظلم التاريخي، والاستغلال والقهر، والعبودية، والتمييز بين الشعوب والطبقات والأعراق والأديان والالوان والمذاهب والعوالم، عالم الفقراء والمُستغلين ومنهوبي الثروات، وعالم التًسيد المطلق للآخر المستغل، عالم الشعوب، وعالم المستعبدين، عالم الحكام وعالم المحكومين.

كانت البشرية تغذ سيرها، وفي حمّى العمل لتحويل الامل الى حياة معيشة لا يتهددها النكوص او الانهيار، بات كل واحد منا اسير اوهامه المركبة.

لم نكن يومذاك نحن جيل الامل والخيبات نميز بين توق الانسان الى الحرية والسعادة، باعتبارهِ حقيقة مطلقة، والطابع النسبي لحركة التقدم نحو الانعتاق الكامل من كل عبودية، فردية كانت او مجتمعية طبقية. لقد اصبحت هذه "الحقيقة المطلقة" في وعينا المنغلق، وهماً يلغي ارادتنا، وينفي الشك والجدل في فكرنا، ويأسرنا في وحدانية مغلقة على ما نحن فيه من اغتراب عما يدور حولنا، وما ينبغي ان نكون عليه من دراية وحراك.

كان عالم الامل، الذي يبشرنا بالجنة على الارض، ويصبح "العامل الحاسم في تطور البشرية" يتاكل من الداخل، ويتهاوى بنيانه بفعل الايمان الساذج، والاغتراب عن الحياة، وبفعل الترهل في الفكر والممارسة، والعجز عن رؤية الجديد المتناقض في جوهره، مثل كل الاشياء والمكونات، مثل الطبيعة نفسها التي تتجدد بفعل تناقضاتها.

ولم تكن اوهامنا مجرد اضغاث احلام، او حلم ليلة صيف. فمعجزات الخلق والابتكار في ذاك العصر خرقت كل ما هو مألوف ومقدس سطحي، فها هو الانسان يطوف في مسار وهمي "حول الكرة الارضية" وها هي اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية تتحرر وهاهي الثروات تتراكم في عالم الاغنياء لتصبح الاصفار متاهات عَصية على الفهم، وها هي المجاعة والفقر والاوبئة والامراض الفتاكة تنتشر في مساحات شاسعة في افريقيا وضياع اخرى في العالم.

وتندلق الاختراعات مثل الشلالات،.. الحاسوب واوتوسترادات المعرفة والاتصالات تزدهر مع اتساع رقعة الاوزون وتفشي الجهل والامية وازدياد البطالة وابادة ثروات الطبيعة.

وعلى امتداد العقود الستة من القرن العشرين، تتالت المعجزات و المنجزات، واستمر نهوض البشرية، وتعددت مرافئ الامل، لتجدد احلامنا بعالم لاينحدر ولاينسلخ عن القيم التي اخذت تسمو بالانسان، خالق القيم كلها، عالم تتسيد فيه الشعوب، وتحدد مصائرها بإرادتها الحرة.

يومها كان العراق يغذ السير، ويندفع غير مبال بالتضحيات، متحصنا بوحدة ارادة الشعب وبالعزم على تقديم نموذجه الخاص للتحرر والتطور.

أخوة ومصالح مشتركة

لقد شهدت الاربعينيات والخمسينيات، نهضة متوهجة، على كل صعيد . فالحركة الوطنية تكاملت بروافدها، القومية العربية، والكردية، والديمقراطية :

الحزب الوطني الديمقراطي، والاستقلال، والتحرر الوطني، والحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب البعث العربي الاشتراكي.

وسرعان ما انخرطت كلها في جبهة الاتحاد الوطني، الاداة السياسية الشعبية التي مهدت لنجاح ثورة 14 تموز 1958، التي قادتها حركة الضباط الاحرار.

وعلى جبهة العلم والفن والثقافة، تفتحت تيارات ومدارس، وجماعات، فانطلقت الحداثة الشعرية، واغتنت الحركة التشكيلية بقيم لونية وخطوط تجديدية، ابتكر الرواد الكبار لها طرائق واساليب، ارتقت بها وحررتها من التجريب والتقليد، وعمقت اصالتها،وشددت ملامح عراقيتها بخطوط وتعويذات التراث والوان دلالات الحاضر.

وشقت السينما مع "سعيد افندي" رحلة مشاهدة الذات المتوثبة الى الجديد، وهكذا اضاءت الانوار، المسارح . واحتشدت الجامعات، التي ضمت جيل الشباب المندفع نحو العلم والعمل الوطني، بابرز المربين المتنورين التواقين الى تحصين رجالات المستقبل بالمعرفة العلمية، والثقافة الوطنية التقدمية.

وفي المصانع والموانئ والمرافئ والحقول، نهض العمال والفلاحون تجمعهم الاخوة، والمصالح المشتركة، فالفلاح اخو الفلاح، وحليفهم العامل والمثقف "وردة" على صدورهم!

والتحمت صفوف هؤلاء جميعا مع الجيش لتصنع معاً ثورة 14 تموز 1958 .

ومع هذه الثورة بدأ شوط دموي، ظل ينزف حتى اليوم.

ومعها بدأ الصعود ليمتحن الامل ثم ليتلاشى، مثل سراب...

فقد كتب على الثورة التي جسدت الامل واليقين وكادت تبلغ ذراها ان تستدير لتأكل ابناءها، ولتنهك قواها ثم لتهمّشها، لكي تدفن في نهاية المطاف في لحظة غدر، تحت اعقاب منتهكي شرف العراق عام 1963.

ثم ترتقي الجريمة المنظمة لتستولي على السلطة وتتوحد معها، وتصفي ماتبقى من زمن الانفتاح على الامل، زمن الرومانسية الثورية!

كان الامل يتدفق مثل ضياء الفجر، يبشرنا بالجنة على الارض. وفي دروب التألق البشري هذا، كان الناس لايهابون التضحية، والموت البطولي، لا الانتحار. وكانت تقاليد التآخي والتعاضد والوحدة، تتجذر في وعي الشعوب عبر القارات، فلا يسقط شهيد في اقاصي الارض الا وتتداعى الجموع في اصغر جزيرة، او ريف او حاضرة على امتداد العالم لنصرته حتى في العراق الممتحن بولائه للانسان، وفي كل هذه الاصقاع كانت ترتفع شارة الشهيد ويجري التنديد بقتلته واسقاطهم لاعلاء شارته.

لم يكن احد من جيل الامل، جيل الرومانسية الثورية ذاك، يعرف وهو يرفع صورة ذلك الشهيد (المجهول) الآتي من ابعد نقطة مجهولة على خارطة العالم لون بشرته او جنسه اودينه او حزبه...، كان يكفي انه شهيد دافع عن مجد بلاده وكرامة شعبه!

كانت اقدس كلمات ذاك العهد الجميل، ما كان يرمز الى معاني السلم والتضامن والاخاء، وحق التحرر والسيادة والانعتاق من كل اشكال الظلم والاستغلال والتمييز.

وفي بلاد الرافدين كان التوحد في بوتقة الامل، يرص صفوف الجميع . كان القومي والبعثي والوطني ورجل الدين والداعية للسلم يسجن بتهمة الشيوعية والافكار الهدامة.

وفي منافي الوطنيين، كان السكان يحتضنون المنفيين، لايعرفون او يسالون عن اديانهم او قومياتهم او مذاهبهم او انتماءاتهم او عقائدهم ،ان مجرد التعرف على هويتهم كسجناء راي سياسيين، كاف لاقصى عطاء وحماية ورعاية .

هكذا كان اهلنا في لواء الرمادي، في هيت وعنه وراوة، وفي الجنوب والوسط، وفي السجون والمعتقلات، حيث كانت "المواطنة العراقية" هوية الكل وهواهم.

في زمن الرومانسية الثورية ذاك، كان التدافع بين الجموع، لتصدر المظاهرات والمواكب والاعتصامات سبيلا للبطولة والوطنية والايثار والشهادة واخلاصاً للذات وللهوية ووقاية للاخرين من الرصاص!

في لحظة غدر تاريخي مريب، بدأ ذلك الزمن، ينسل ويخفت لهيبه، شيئا فشيئا ..،، ثم لينطفئ.

لكنه، ويا للعيب، لم ينطفئ بفعل الصدفة المحضة، بل كان في اساس انطفائه خراب الوعي!.

استحالة النكوص

كان صعباً على نزيهة الدليمي، وهي تشرف على الثمانينيات، ان تتحمل نكوصاً، او اعترافاً بانطفاء الامل، ولو الى حين. كان مستحيلاً عليها، وهي تسترجع شريط ذكرياتها، ومراحل تكونها ونضوجها وانتمائها، وتحول قناعاتها وما اعتراها من ترددات وشكوك الى ايمان مطلق، ان تنكفئ او ان تقبل بالهزيمة وان بدت مؤقتة، او بالتراجع بالمعايير التاريخية الخادعة.

في مثل عمرها وقد انهكتها الغربة، بعد ان نال منها تعب الصراع وتقلبات الحياة، لم تلتفت الى الماضي الا لتسري عن نفسها، وتستنسخ منها كل ماهو مضيء، جميل، واعد، يتحرك كما لو كان حياة راهنة متدفقة بالحيوية والوعد، ولم يكن من سويتها ان تلطخ أي صفحة فيها، كما يفعل الهواة،الذين وضعتهم الصدفة على طريق هواها.

كيف كان لها ان تمعن الفكر، وقد جففت الشيخوخة والاحساس بالنهاية، وما تبقى من بريق الامل، في اسباب الخراب الذي حل في العراق، والضياع الذي يعيش فيه العالم من حولها؟

أي عبء ثقيل مرهق كان عليها ان تتحمله، وهي ترى مظاهر الانهيار تتراكم، وشظايا اليأس تتناثر مثل الطاعون، تصيب من كانت ترى فيهم، مرافئ، يغفو المتعبون خائري القوى عند ضفافها ليسترجعوا قواهم ثم لينهضوا بعد ذلك من الرماد كالعنقاء!

في تلك اللحظات، التي يختلط فيها خيط اليأس بالامل، أكرمتها الدنيا بانطفاء ذاكرتها ! صارت تتحسس الاشياء والحركات والناس بعينيها وبعاطفتها الجياشة.

لقد فقدت ذاكرتها،.. ونسيت مرة واحدة والى الابد ما يشي بالخراب، وربما تناست هي عن عمد الفسحة التي تفصلها عن كل ماهو سابق للحظتها الراهنة، لتظل صافية الاحساس في اعماقها، مثل من ينكر موت معشوقته، ويظل يصلي في محرابها!.

هكذا تخطت نزيهة الدليمي، محنة الاحساس بالانكسار والفشل وتبعثر الامل، ولوعة التنصت من بعيد على نداءات الاستغاثة من سبايا الوحشية التي داهمت وطنها، ودعاءات المستباحة دماؤهم على ايدي المجدفين بالقيم، وهم يقذفون بعضهم البعض بالكتب المقدسة، ويتراشقون بالآيات الكريمة، ويحرفون معانيها، لتمنحهم حق القتل على الهوية، وتهجير الناس من مرابعهم، والتفريق بينهم، طوائف ومذاهب وأعراقاً وعشائر ومشارب.

لقد اجتازت نزيهة كل مراحل الحرية التي كانت هاجسها منذ ريعان صباها . فاندفعت مثل ربيع الحياة في دروبها، مناضلة كرست عشقها لمُثل الحرية والعدالة والمساواة.

وفي دربها الشاق والمتقطع بحواجز الكراهية، كراهية انظمة الاستبداد والتخلف المتعاقبة، التقطت قضية المرأة، قضيتها هي ككينونة مأسورة، وحولتها مع مجايليها الى حركة ظلت تكر وتلتحم مع كل القوى الحية في المجتمع لتنتزع بالمعاناة والتضحيات الواعية، حقها في ان تكون حرة الارادة، متساوية الحقوق، احدى ضفتي المجتمع بلا أي قيد او تمييز.

غدت الدليمي وهي في ريعان الشباب مضمخة بعز النضال، وهي شيوعية يقينية الهوى، اجتازت محن الحياة ، رمزاً للمراة وهي تتحدى، لتتحرر وتتساوى، واصبحت في لحظة امل، اول وزيرة عراقية وعربية تحولت من فرد حر، الى ظاهرة لتجلي الارادة الجسورة.

المقاربات المضيئة

كما نحن، لم تتشرب ذاكرة نزيهة الدليمي سوى باللحظات والمقاربات المضيئة التي اقترنت بسنة ولادتها وما تلاها من سنوات وعقود.

وربما يكمن في هذا، سر نشوتها، واستعصائها على فقدان الثقة، وسريان الامل في روحها، حتى انها خشعت في لحظة فرادة مضيئة في صلاة مناجاة لمثلها العليا!

لم تكن هي وحدها، كلية اليقين بما اعتنقت، فقد كان هذا سوية مجايليها ممن تفتحوا على الامل دون ان يتقبلوا بأي شكل كان تدنيسه بشكوك رثة، لا تصمد امام الايمان المطلق.

وغاب عنها وعنا،نحن جيل التوهج، ان هذا التّمنع،والاطلاق، وراحة البال، ماهي الا اساس الخطيئة التي بددت الامل نفسه،.. ولو الى حين!

هل كان ضياعنا يكمن في لحظة اندفاعتنا الاولى غير الواعية، الى العالم الحسي، عالم الروح والجسد والافتراضات السعيدة حيث تتلقفنا يد "الداية" التي لاتبشبش في اذاننا بغير كلمات الاحتفاء والتمنيات؟

وما الذي في وسعها ان تفعل غير ذلك، وهي نفسها لاتعي، ونحن ننفصل عن مشيمتنا،سر التناقض المحير الذي يظل مضمراً في اعماقنا البعيدة، بين صرخة الولادة، وفرحة الابتداء الانساني الغامض!

نزيهة الدليمي عادت الى الوطن، وهو يغرق، وتستباح كراماته ويتيه ابناؤه غرباء بلا اوطان، يهيمون في كل مكان مشردين،كتب عليهم الحرمان والبؤس في زمن يعيث فيه الفساد ويستشري، في كل مسامة من جسد دولتنا.

تعود نزيهة الدليمي الى لحد منزو غريب بعد ان ظلت تتمنى حتى اخر لحظة، ان تكحل عينيها بمرأى وطنها المستباح.

لعل في غفوتها، وقد عادت راضية مرضية، راحة بال لها، تمضي في سرب الابدية، دون ان ترى الكلاب تنهش لحمنا وتهرس عظامنا وتلعق دم خيرة ابنائنا، وتلف اشلاءنا بمزق واسمال الطائفية الرثة....

ياللعار...!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الستراتيجيّةُ العمياءُ وراءَ فاجعةِ الكرّادة..

في حُمّى "الهَلْوَسةِ السياسيّةِ" استرخى وزراءُ "الغَمْغَمَةِ" واللَّك..!

بينَ اليأسِ والإحباط مساحةٌ مضيئةٌ للصمت ..!

الموت حين يُصبح طقساً عابراً بلا مراسيم تشييع للفقراء .!

"بــيــروت مـــديـنـتــي".. وعـيـــنٌ عـلـــى بــغــداد ...

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram